كتاب عربي 21

تونس بين جدلية الثورة والثورة المضادة

سمية الغنوشي
1300x600
1300x600
تمر هذه الأيام الذكرى الثامنة للثورة التونسية، هذه الثورة التي انطلقت فجأة، من دواخل تونس وأعماقها المهمشة والمفقرة.

لا أحد كان يتصور رحيل ابن علي بتلك السرعة والمباغتة؛ بعد أن حصن نظامه بقوة الأجهزة البوليسية الضاربة، وجيش من المخبرين، وحالة قمع واسعة شملت مختلف المكونات السياسية والاجتماعية.

بدأت الثورة انتفاضة احتجاجية، مدفوعة بالشعور بالفقر والحرمان وسطوة النظام وأجهزته وحزبه الحاكم.

لكنها ما فتئت أن أخذت بعدا سياسيا واضحا مع تبلور الشعارات والمطالبة السياسية بصورة تدريجية ومتزايدة، خصوصا مع انتقالها إلى مراكز المدن الكبرى، وإصرار المتظاهرين على إسقاط النظام، والتصميم على رحيل ابن علي.

وقد برز ذلك بصورة واضحة مع شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" المستلهم من قصيدة أبي القاسم الشابي، ثم كلمة "ديقاج" الفرنسية أو "ارحل".

حاول الكثيرون محاكمة الثورة التونسية، ومن بعدها من الثورات العربية، على ضوء نموذج نظري نمطي للثورات مستمد من المثالين الفرنسي والروسي لاحقا.

كانت الخلفية واضحة: الاستنقاص من شأن هذه الثورات. فبما أنها قد خلت من القيادة الطلائعية الملهمة، ومن الهرمية على طريقة يعاقبة الثورة الفرنسية وبلاشفة روسيا، وافتقرت للنظرية الثورية المكتملة، فهي ليست بثورة، بل انتفاضة في أحسن الحالات..

والحقيقة أن الثورة التونسية انطلقت انتفاضة تلقائية ذات مطلبية اجتماعية، ثم غدت ثورة حقيقية وعميقة تقودها قيادات محلية فاعلة.

كما أنها مزجت فيما بعد بين المطلبية الاجتماعية والجذرية السياسية، من خلال الدعوة لرحيل النظام والمطالبة بالحرية والكرامة، شأنها في ذلك شأن كل الثورات الحديثة تقريبا.

ثماني سنوات مرت اليوم على ثورة تونس بكل تقلباتها وتناقضاتها. فكيف نقيّم اليوم مسارها؟ وإلى أين تسير وجهتها؟ ما هي مواطن النجاح والإخفاق؟ وما طبيعة التحديات أمامها؟

واجهت الثورة التونسية، ولا تزال، عواصف هوجاء ومخاطر جمة، بعضها متأت من معطيات الإقليم، وبعضها الآخر من الداخل.

نجح المحور الخليجي المعادي للثورات في كسر موجة الربيع العربي، بعد أن أطاح بثورة 25 يناير وأرجع العساكر بقيادة السيسي إلى سدة الحكم.

ثم دُفِعت ليبيا في أتون حرب أهلية بقوة السلاح، بعد التصميم على صنع سيسي جديد في ليبيا (الجنرال حليفة حفتر).

وخُرِّب مسار الثورة السورية عبر تفجير التناقضات الطائفية والإثنية واستخدام ورقة الاٍرهاب، على خلفية محاربة إيران وإنهاكها في الساحة السورية.

أما اليمن، فغُدر بثورة شبابه باحتضان علي عبد الله صالح، ثم الانقلاب عليه، ودحرجة الوضع صوب حرب داخلية، قبل أن تتدخل القوات السعودية هناك وتجلب الخراب والدمار الشامل.

وظل هذا المحور يعمل ليلا نهارا على ارباك التجربة التونسية عبر التحريض الإعلامي والضخ المالي وبث الفتنة والانقسام بين مكونات الطبقة السياسية.


كل ذلك حتى يثبت هذا المعسكر سرديته الكبرى بأن الديمقراطية لا تصلح للعرب، ولا تفرز غير الفشل والفوضى، وأن الحل الوحيد المتاح أمامهم هو الحكم الفردي والعسكري المطلقان.


لكن، ورغم كل هذه الدسائس، نجح التونسيون (إلى الساعة) في حماية مكتسب الحرية الذي جاءت به ثورتهم، وهذا في حد ذاته لعمري إنجاز عظيم، في مناخ سياسي عربي سمته الأبرز عودة التسلطية، وسياق عالمي يشهد صعودا للشعبوية ورفض الخيارات الديمقراطية.

رغم العقبات الكاداء على طريقهم، تمكن التونسيون من سن دستور جديد ضمن الحريات العامة والخاصة، وفرض إعادة توزيع السلطة للتخفيف من آفة المركزية والحكم الفردي.

وأسس دستور الثورة للتداول السلمي على السلطة؛ عبر انتخابات تتوفر على قدر كبير من الاستقلالية والنزاهة، وهي حالة غير مسبوقة في تاريخ تونس، وتكاد تكون معدومة في العالم العربي.


نجحت الثورة بأقدار نسبية في احتواء قوى الثورة المضادة عبر إعادة تأهيلها واستيعابها داخل منظومة الحكم الجديدة، بتجنب خيار الإقصاء والعزل، مقابل القبول بالمنافسة الانتخابية وإدارة الصراع بالآليات الديمقراطية.

ولكن هذه الأخيرة ما زالت تمتلك أذرعا طولى في الأحزاب والإعلام ودوائر المال والنفوذ، وتتغذى من قوة المواقع والخبرة والإمكانيات المالية، بضخ إقليمي كان وما زال يراهن على إسقاط التجربة برمتها.

كل هذا أتاح لها إعادة التموقع في ساحة لم تخرج منها أصلا. وهذا خيار، على هناته، أقل سوءا وضررا للتجربة التونسية.

ما زالت تعتمل في أحشاء الجسم السياسي التونسي تناقضات بين مكونات الثورة والثورة المضادة. هذه التناقضات تم احتواؤها زمنا عبر التوافقات والتسويات السياسية التي عقدت عام 2014، على أرضية الثورة والدستور الجديد.

لكن الشجرة يجب أن لا تحجب عنا الغابة أو المشهد الكبير خلفها، وهو أن هذا التوافق كان في أساسه مع حزب النداء الذي يمثل خليطا غير متجانس؛ ضم في أغلبه القوى الكارهة للثورة والرافضة للقوى الجديدة.

وقد ظل هذا التناقض يفعل فعله في الواقع التونسي بين منظومة جديدة؛ راهنت على احتواء مكونات المنظومة القديمة وترويضها ديمقراطيا، وقوى قديمة تسعى جاهدة لإعادة الانتشار واحتواء قوى الثورة بآليات الإنهاك السياسي والإعلامي.

وهذا باختصار سبب حال التوتر والتجاذب الذي تطبع الساحة السياسية التونسية اليوم.

تونس أيضا لم تكن بمنأى عن دور المحور الإقليمي، بقيادة السعودية والإمارات، المصمم على غلق ملف ثورات الربيع العربي، وفق معادلة واضحة وبسيطة، وهي إما نحن أو الجحيم:

إما أن تستمر منظومة الاستبداد والحكم الفردي.. أو الفوضى والخراب والحروب الأهلية.

تعيش تونس هذا التقلب بين موجات الثورة، المدعومة أساسا من الفئات الضعيفة والمتضررة من حكم ابن علي، وقوى الثورة المضادة التي تتغذى من مراكز النفوذ والمصالح الكبرى، في تقاطع مع قوى يسروية فوضوية تحركها نوازع العمى الأيديولوجي.


كما أن الثورة التونسية ما زالت تعاني من هوة كبيرة بين المكتسب السياسي وحجم الإنجاز الاقتصادي التنموي.

فالجهات الداخلية المهمشة والمفقرة والفئات الضعيفة من أبناء المدن لم تلمس تحسنا ملحوظا في مستوى عيشها وحياتها اليومية. بل إن التقلبات السياسية والأزمات الاجتماعية قد أثرت على وضعها العام بصورة سلبية، فزادته تدهورا.

كما أن تقلبات الجوار المباشر وخاصة مع ليبيا ما انفكت تلقي بظلالها السلبية أمنيا وسياسيا واقتصاديا على تونس، بحكم الترابط الوثيق بين البلدين.

والحقيقة أن فشل التونسيين في حل هذه المعادلة بين السياسي والتنموي يجعل تجربتهم هشة وضعيفة. لكن ما يدعو لبعض التفاؤل هو أنهم رغم كثرة تذمرهم من الوضع الحالي، عازمون على الحفاظ على منجز ثورتهم، مدركون حجم التربص الإقليمي بها.

كما أن الطبقة السياسية شديدة الوعي بالأولوية الاقتصادية الاجتماعية بعد استكمال بناء المؤسسات السياسية.

فهل تنجح الثورة في استكمال الأميال الأخيرة المتبقية والوصول بتونس لبر الأمان؟

وهذا رهان مهم ليس لتونس فقط، بل للعمق العربي الأوسع المبتلى بالأزمات والحروب الأهلية، وتغول حكومات العنف والتسلط.
التعليقات (17)
محمد الامجد الدشراوي
الثلاثاء، 31-03-2020 12:38 ص
اشكرك جيد في امان الله
محمد الامجد الدشراوي
الثلاثاء، 31-03-2020 12:36 ص
الان استودعك الله الذي لا تضيع وداءعه دمت في رعاية الله وحفظه اللهم اني اسالك السلام على تونس يا حي يا قيوم
رضا.الدلالي
الأحد، 01-09-2019 07:41 ص
اتمنى.لتونس.النجاح. وتكون.حركة..هي.القدوة في.التطور.في.السياسة.والعلم.في.كل.المجلات
يعقوب محمد
الجمعة، 25-01-2019 01:31 م
السلام عليكم شكر توصيح
الناصر البرهومي
الجمعة، 25-01-2019 12:08 م
اصخى ثابتا ان الحكومات منذ رحيل بن علي لم توفق في توفير دخل محترم للفئات الفقيرة التي ازدادت فقرا و لم توفر ايضا مواطن شغل بالقدر المطوب و لم تتلمس طريق التحرر الوطني المعادي لهمينة الراسمال الاجنبي على القرار السياسي الصادر عن راسي السلطة و في ظل العجز عن الاستجابة لطموحات الشعب المفقر باليات جديدة منها رفض مراجعة نظم نغقات الوزارات و مؤسسات و منشات الدولة و التكتم على محاربة نظم الجباية و الاقتصاد الموازي الداعم لبعض اذرع السلطة الحاكمة بطرق قد يستخيل اكتشافها او تفكيكها و لئن كان من المؤمل مصارحة الشعب بالوضع الاقتصادي الصعب و دعوته للتضحية و التعويل على قدراته و مكتسباته فان الحكومات المتعاقبة خادت عن الطريق و سلكت سبل التسول و الارتهان للاجني وغق تصرفات مهينة فد لا تليق بشعب متالق و متعطش للحرية الاقتصادية و رافص للتبعية لراسمال متهمج نزع عنه كرامته على امتداد قرون خلت و لئن كان من تلمؤمل شحذ همة سعبنا للتعويل على نفسه فشعبنا اصبح مؤهلا اكثر من اي وقت مضىى للتضخية توصلا لاستقلاله الوطني ' فان الحكومات المتعاقبة عجزت عن تقديم اي بديل للخروج من الازمة بل سلكت منهجا مقيتا مثل مثيلاتها في عهد النظام السابق الامر الذي ترتب عنه ياس الشعب من خطابهم الرحعي المتلبس بعباءة القديم المستبد و المتميز بالتغول و بنشر الحهل لتابيد حكمه و يحدر التاكيد ان شعبنا قادر على الصبر و تفديم التصخية لو طلب منه ذلك و بالتالي فانه بتجه مثارحة الشعب و دعوته للتضحية مقابل كشف الحقيقة الكاملة له و نؤكد للجميع بان هذا التمشي قد يكتب له النجاح ان اهذ على محمل كبير من الجدية المدروسة فكفانا تبعية للغير المتربص بنا و اذ نعول علد قدرات شعبنا على التضحية فننا نعول ابضا على العون من طرف الشعوب الصديقة و السائرة في فلك التحرر قد يفهم البعض ان نداء التضحية يعد امرا نظريا فاننا نؤكد امكانية ذلك و الحال ان الواقع يقتضي هبة شعبية تهتم بالفلاحة و تطويرها و بالصناعة ان قدرات ثروات تونس الفلاحة و الصناعة و غيرها ‘ كثيرة و متنوعة و لكن المواطن مكبل وفق منظومة قديمة صممت لتكبيله و لوضعه في عجز تام عن الانتاج و خلق الثروة نؤكد بان حركية الاستثمار و التمويل الحركي التشاركي وفق منظومة تصمم و تنفذ في اطار الترويج لاهنية التضخية السعبية ، قادرة على خلق الثروة بطرق سهلة و سلسة قدرنا جميعا في تصخية شعبية ممكنة عملا بمقولة الشاعر ابو القاسم الشابي " اذا الشعب يوما اراد الخياة فلا بد ان يستجيب القدر" قدر شعبنا " التضحية المسؤولة الصادرة منه و اليه وعليه و الهادفة للعيش الكريم صلب وطن حر مملوء بالخيرات و الرجال و بالتساء " حراير تونس ندعو الحميع لهبة شعبية تضامنية نحو تحرير وطننا من التبعية من خلال تضخيات جسام يتبناها و يعمل على تنفيذها نسوغ ملاخظتين 1) ان وضع القطاع التروبوي انر يمس الحميع في الصميم فالدولة التي لا تهمتم بتلاميذها دولة فقدت الصواب و اتجه و الحالة تلك الدفع باتجاه ايجاد الحلول الملائمة مع ضرورة اخذ هاته المسالة بجدية تامة و بالتالي فلا يجوز باية حالة من الاحوال المساس بقطاع التربية العمومية و اهانة منتسبيه تحت اي ذريعة كانت 2) ان قطاع الفلاحة قادر ان يكون قاطرة لجر التنمية لو دعونا الشغب لهبة فلاحية مؤطرة كما يجب 3) ان غياب الارادة لدى رجال السياسة السائرين في فلم منظومة قدبمة فاشلة بحكم انغماسها في حركة لم تنتهج التحديد بل انتهحت خط ليبرالي تجاوزته الاخداث و لم قادرا على تقديم الحلول الملائمة ‘ هو الذي اربك الوضع و ساهم فب زيادة افقير الشعب 4) ان فشل المقاربة الليبرالية في معالجة الوضع قد يدفعنا للتفكير بجدية لوضع مقاربة جدية قادرة على تقديم البديل الاكفا وفق تدبير شعبي قد يستحق البعص من الوقت مع العناء عنلا بنقولة " من يحب زهرة يتقبل الم اشواكها" و لسيت الزهرة المقطوفة مثل الزهرة المتاتية من الشراء او من الهدية؟؟؟ 5) ان دقة الةضع الراهن و صعوباته التقاصادية و الاجتماعية و السائرة باتحاه فرض فشل تحربتنا الفتية ‘ يدفعنا جميعا نحو التفكير بجدية توصلا لايجاد الحلول الملائمة بتشريك فعلي و واقعي للشعب متن خلال مصارحته و دعوته للتضخية اذ بدون ذلك قد يستحيل معالحة الوضع للتفاعل : هذا عنواني الالكترونيbarhouminaceur0@gmail,com الناصر البرهومي؛ المهندس الدكتور // المتخثصص في علوم الفلاحة و السياسات الزراعية و اقتصاديات الاستثمار و التمويل و التحليل المالي gmail,com