كتاب عربي 21

"كلام غريب".. السودان وغيره

جمال الجمل
1300x600
1300x600

(1) 

تأملت ما تيسر من مشاهد المظاهرات في السودان، فوجدت ما يغنيني عن السؤال، وانصرفت عن الجدال الكلامي الدائر بشأن الإهمال الإعلامي للمظاهرات، وكذلك بشأن الخلاف حول توقيت الثورة والمخاطر الكامنة والمؤامرات التي تهدد الأمن القومي، وانصرفت بذلك عن تفاصيل الصراعات والتحالفات السياسية مع البشير أو ضد البشير، وحسابات موقف الإخوان ودول الجوار ولوغاريتمات الوضع الدولي والإقليمي الملغزة برغم وضوحها ووضوح أهدافها.

من حق أحدكم أن يتعجلني متسائلاً بضيق: إذا كنت قد انصرفت عن كل هذه القضايا، فماذا يبقى لتتأمله في مشاهد الفيديو التي نقلت جانبا من المظاهرات التي تزهد في الاشتباك بشأنها؟

(2)

الفقرة السابقة تقدم مثالاً للحوار الذي يدور في نفسي قبل كتابة أي مقال جديد، وكلما طال الحوار وتعرفت على المزيد من المعلومات عن القضية التي أفكر في الكتابة عنها، كلما ابتعدت عن المعلومات التي تعرفت عليها، لأنها تصبح بالنسبة لي "مادة مجانية" يمكن لأي قارئ (بقليل من المتابعة) أن يتعرف عليها كما فعلت، حينها أخجل (ككاتب محترف) من عدم مقدرتي على تقديم زاوية جديدة في عصر يستطيع فيه القارئ أن يحصل على المعلومات قبل أن يتمكن الكاتب من نشر مقاله، لهذا يدفعني العصف الذهني إلى تسلق جبل "الخطوة المتقدمة"، وهو أسلوب معمول به في الإعلام الحديث وفي تدريبات التفكير التي تحرضنا على إهمال الأفكار الشائعة السهلة والنظرات الأولى التي تخطر على بال الجميع، لنرتقي لفكرة أبعد، ثم أبعد، وهكذا نمضي في الـ"ما بعد".. إلى أن نصل "نقطة رؤية" تطل على الحدث من زاوية جديدة وتستطيع أن تقوده بطريقة أفضل ولا تدور معه في الفراغ، المزعج للبعض أن هذه النقطة يبدو فيها الكلام غريباً عن "الكلام السائد"، لكن الغربة هنا لا يجب قياسها بالاختلاف عن المطروح، بل بموقعها من القضية: هل تعيد وتكرر وتستسهل تدوير الكلام نفسه بحيث نسترجع الماضي أكثر مما نحفر ممرا للقضية باتجاه المستقبل؟، أم أن الغربة هي "خطوة متقدمة" يجب أن نضيء الطريق إليها لنتحرك بالمجتمع نحو الجديد ولا نعيد إنتاج القديم؟

رأيي أن التفاعل الإيجابي مع أي قضية لا يقاس بعدد الكلمات التي أريقت حولها، ولا بقدرة الإعلام على إثارة شهوة توسيع الكلام حول الحدث، وإن كان ها مطلوبا ومحمودا في متابعات الأحداث، ولفت الأنظار إليها، فإن مقالات الكتاب والباحثين والمفكرين يجب أن تختلف وتعصف بالأفكار المتداولة وتهضم المعلومات لتقدم رؤى جديدة وزوايا نظر أعمق من التعليقات التي تليق بالتقارير الإخبارية أو استطلاعات الرأي السريعة التي تلبي رغبة الجمهور في التعرف أكثر من جذبه للتفكر والتدبر.

من هذا أعود إلى موضوع "الكلام الغريب" الذي تقدمه بعض الأقلام الجادة وبعض الأصوات التي تتحدث عن التقدم ومظاهر الديمقراطية المواطنة، بينما السلطة تفضل تبعية المثقف، وكذلك معظم الجمهور يفضل المواكبة والانخراط في لغة تنابذية سهلة تغذي رغباته وتسلي وقته وتعدل مزاجه، وللأسف يصبح الكلام الجاد مُراً كالدواء، بل ويبدو انصرافا عن القضايا وجماهيرها، مع أنه سَفَرٌ ضروري من السطح إلى العمق ومن الثرثرة إلى الفعل، هكذا يتجدد سؤال القطيعة والتواصل، وأعتقد أن السؤال ليس حديا، فليس مطلوبا أن نقطع تماما مع جمهور التسلية، لكن أيضا ليس مطلوبا أن نخضع له مستندين إلى مؤشرات "الترافيك"، بحيث يتغلب "الفيشار" على مضمون الفيلم السينمائي، وهذه قضية كبيرة طرحها باشلار في دراساته عن القطيعة المعرفية، لكن ما يعنينا منها اليوم هو محاولة التفكير في إجابة معتدلة ومتوازنة على هذا السؤال: من يقود الرأي العام؟

(3)

السؤال ليس سلطوياً ولا يعني أن هناك طرف يتحكم في طرف آخر ويملي إرادته عليه أو يزيف وعيه، لكنه سؤال في الخدمة الجيدة.. سؤال في تنظيم المهام من أجل حياة أفضل، لأنك تستطيع أن تسأل: من يقود القطار أو من يقود سيارة الرئيس، دون أن يكون في ذلك تحقير للركاب بمختلف ثقافاتهم أو للرئيس، لكن قيادة الرأي العام مهنة ومهمة تقوم بها مؤسسات منها الإعلام، ولا ننسى أن منها أيضا المدارس والجامعات والأحزاب، بل والمقاهي وشلل الأصدقاء في الأندية الاجتماعية والرياضية وكذلك على النواصي.

الإعلام الجيد إذن لا يفرط في مهمته كصانع للرأي العام، ولا يجب أن يقع ضحية التسويق الزائف ومواكبة الأذواق السائدة للجمهور لو كانت هابطة، بل يجب أن يسعى لتطوير الذوق والمزاج العام، كما يسعى لنقد الظواهر السلبية، ويعمد للتحذير من ممارسات والتحريض على ممارسات أخرى، وإذا فقد الإعلام طريقة التفكير بأسلوب الخطوة المتقدمة "نيكست فورورد"، فإنه يفقد رؤيته للمستقبل، وإذا فقد رؤيته للمستقبل، فإنه سيسقط في مستنقع الترويج الخاطئ أو تقديم سلع الإرضاء لجمهور تائه أو سلطة متسلطة أو ممول لديه أجندة تحمل ترتيبا وتكييفا للقضايا حسب "رأي خاص" لا علاقة له بالرأي العام وبالمصلحة العامة.

(4)

ما علاقة ذلك بمظاهرات السودان وبتأملات مشاهد الفيديو للسودانيين المحتجين في مدن عدة؟

يقول محترفو الإعلام أن الصورة بألف كلمة، ويتحدث الناس عن أزمة الثقة في السياسيين ويبادرون بالشك في مواقف الإعلام ونوايا قادة المعارضة، فالأول متهم بالتبعية لمضخات التمويل وحساباتها، والمعارضة متهمة بالتآمر لنيل السلطة ثم تفعل بالجماهير نفس ما يفعله النظام السابق وربما أبشع.

إذن لابد من استخدام المواد الإعلامية  الخام (الداتا) لتأسيس وعي شعبي مستقل، يمكن لكل مواطن بنفسه أن يتعلم من خلاله قراءة الحدث بأكبر قدر من النزاهة، ولاشك أن مقاطع الفيديو التي يسرتها الأجهزة الحديثة تصلح لذلك تماما قبل معالجتها وتلوينها بألوان المؤسسات الإعلامية والسياسية، ومن هنا جاءت قراءتي لمظاهرات السودان من خلال تأمل مشاهد الفيديو، وليس من خلال الكلام الدائر، والمواقف المخلوطة والمغلوطة، والتي يستخدم فيها كل طرف نفس التصريحات والمشاهد لتدعيم وجهة نظره فيسري الكلام عن دعم قطري للسودان، وعن تعاطف مصري مع البشير، وعن مؤامرة أمريكية ضد السودان تبدأ بإسقاط البشير، وعن تجاهل إعلامي متعمد لثورة السودانيين، وعن استذئاب حزب الأمة وخياناتالحلفاء السابقين، وعن وعن وعن... ليمتلئ رأسنا بكلام كثير نتخذ منه موقفا بالغريزة فنقف مع طرف ضد طرف دون أن نتأكد أننا في المكان الصحيح أو في الموقف الرشيد، أما إذا استوعبنا ما تيسر من معلومات، ثم وضعناها في هامش الشعور وبدأنا في التأمل الذاتي، وتعمدنا التوصل لرؤية مستقلة بأنفسنا فسوف نصل إلى موقف أكثر تعبيرا عن ثقافتنا وأكثر راحة لضمائرنا، ولهذا سأخبركم بما رأيته في مظاهرات السودان.

(5)

رأيت فقراء بملابس متباينة يسيرون في شوارع مهملة غير مرصوفة، يحملون أوراقا من كراسات تحمل شعارات غير مرئية، ويهتفون بهتافات احتجاجية عفوية، وتبدو احيانا سيارات متهالكة خارج الزمن، وقاذورات مالوفة في الطرق الرئيسية لأشباه المدن، ومعظم المشاهد بنوعية ضعيفة وغير احترافية، ما يعكس حالة من التدني لا تليق بدولة

هل هذا هو السودان؟.. هل هذه مدن؟.. هل هذه شوارع وبيوت؟، هل هناك أحزاب وتنظيمات سياسية؟، هل فقد السودانيون هويتهم وزيهم التقليدي تماما بحيث تبدو المظاهرات وكأنها في "سودان أوروبي جديد"؟ بعد أن اصبح السودان القديم بقبائله وجلابيبه البيضاء غير صالح للتعايش مع العصر؟

كل ما شاهدته يؤكد فشل الأنظمة المتعاقبة في السودان، وليس فشل البشير وحده، ولا يعنيني الآن الحديث عن مؤامرات إقليمية أو ترتيبات للإرهابيين والانفصاليين، يعنيني أن المسيرات الجماعية للشعب السوداني كشفت عن صورة لا تليق بشعب، إنها احتجات اللاجئين في المخيمات النائية تبدو في صورة أفضل من احتجاجات السودانيين في مدنهم الكبيرة، وهذه الوثائق البصرية الصادمة تم عرضها ليراها العالم، ويضع السودان في صورة نمطية لشعب لم يغادر القرن التاسع عشر إلا بتشوهات في الملبس والعمران وتصور الذات أيضا، فقد قضت السلطات المستبدة على السودان القديم بتركيبته السكانية والجغرافية ولم تقدم على مدى 60 عاما إلا الفقر والجوع والهوان والانقسام.

وفي رأيي فإن هذه الاسباب الواضحة في الصورة تكفي لأكثر من التظاهر، بعيدا عن ذرائع عبد الواحد نور ومؤامرات دارفور وتصريحات حكام الجور، فأصل الداء في الخرطوم، ولابد من سودان جديد يبدا من تأمل الصورة الصادمة التي رأيناها ومحاولة التخلص منها لصالح صورة جديدة تليق بشعب وادي النيل الكريم الصابر الطيب.

تحية للشعب السوداني، ولكل شعب يثور رافضا عيشة الفقر والقهر، ساعيا لحياة تليق بإنسانيته

وأخشى أن يظل هذا الكلام غريباً بيننا

[email protected]

1
التعليقات (1)
التجاني
الخميس، 27-12-2018 09:12 م
" يا عبد الله. نحن كما ترى نعيش تحت ستر المهيمن الديان. حياتنا كد وشظف لكن قلوبنا عامرة بالرضي قابلين بقسمتنا ال قسمها الله لنا. نصلي فروضنا ونحفظ عروضنا متحزمين ومتلزمين على نوايب الزمان وصروف القدر. الكثير لا يبطرنا والقليل لا يقلقنا، حياتنا طريقها مرسوم ومعلوم من المهد إلى اللحد. القليل ال عندنا عملنا بسواعدنا ما تعدينا على حقوق إنسان ولا أكلنا ربا ولا سحت. ناس سلام وقت السلام وناس غضب وقت الغضب. ال ما يعرفنا يظن إننا ضعاف إذا نفخنا الهواء يرمينا، لكننا في الحقيقة مثل شجر الحراز النابت في الحقول... " هذا جزء من منثور الطيب صالح..

خبر عاجل