قضايا وآراء

عندما يتحول الربيع العربي إلى ربيع عالمي

فؤاد العايب
1300x600
1300x600
تمهيد:

ضحى الملايين من الناس عبر العالم للتخلص من الاحتلال والاستخراب، فتُوّج ذلك بتكوين الدولة الوطنية. كان ذلك حلما ضحت لأجله الشعوب بالغالي والنفيس، ولكن هذه الدولة انقلبت بسرعة على صانعيها الحقيقيين لعدة اعتبارات.

مشكلة الدولة الوطنية أنها حاكت السائد عالميا من خلال وعيها المختل بدور الدولة، حيث يفترض أن تكون خادما للمجتمع، ولكنها تعالت على صانعيها وسعت إلى تحويل المجتمع إلى خادم.

لم يشهد تاريخ البشرية ابشع من الدولة الحديثة في مركزيتها واحتكارها للشرعيات وللوسائل، لقد كان السفر حقا لا يتطلب الترخيص من أحد، وكانت الخدمات الصحية والتعليمية تدار من قبل المجتمع ماليا وإداريا ومضمونا، ولم يكن السلاح واستعمال العنف حكرا على الدولة.

أما في عصرنا، فقد جعل لكل مجال وزارة تتحكم في كل جوانبه، وقيدت حركة الناس بتشريعات ونظم حتى أصبح المسموح محددا للمشروع أي أصبح القانوني محددا لما هو شرعي مما جعل الدولة (أي المؤسسة) تتماهى مع الإلهي، مما جعل تعالي المؤسسة على الشعوب مركبا.

بالإضافة إلى كل ذلك، نجد من تسلم أو سلم مقاليد الأمور بدفع من قوى الهيمنة الدولية، حاملا لعقد ضد بيئته، ومنبهرا بنماذج عمقت مآسينا؛ واستعبدت شعوبنا واستنزفت خيراتنا، وختمتها بأن سلطت علينا أراذلنا، وسوّقت لهم تحت وعود كاذبة بالتقدم والرفاه واللحاق بركب الأمم المتقدمة لإخفاء الإلحاق عبر وعود اللحاق.

لم يطل الأمل، فسرعان ما انكشف زيف الوعود، وعندما حاول المجتمع التغيير أعاقه قصور تاريخي ومعرفي في مجال إدارة الشأن العام نتيجة لإرث الاستبداد الطويل، كما لعب الدعم الخارجي تسليحا وتسويقا وتعتيما عن الجرائم التي ترتكب مع سيطرة كلية على المعلومة ووسائل الإعلام؛ دورا في إجهاض كل المحاولات.

بواعث ثورة الربيع العربي:

بعد سقوط الاتحاد السوفييتي أصبح الجانب الرأسمالي مطلق اليدين، لا يخشى ردود فعل الشعوب. وقد أصبح العالم أحادي القطبية، واتجه إلى قدر من الاندفاع في اتجاه رأسمالية متوحشة محليا في دول المركز وفي الأطراف كذلك.

في دول المركز لم يعد من داع لما سماه أحد علماء الاجتماع الأمريكيين بالرشوة للطبقات الضعيفة، المتمثّلة في هامش معتبر من الحرية وفي دولة الرفاه الاجتماعي؛ من خلال مساعدة العاطلين عن العمل وتوفير السكن وتوفير العلاج والتعليم المجاني لتجنب التمدد الشيوعي.

أما في الدول التابعة، فقد تم دعم الأنظمة القمعية والتغطية على جرائمها، وتخصيص القطاعات العامة عبر التفويت فيها للعصابات الدائرة في فلك الحكم أو عصابات الشركات الدولية، كما أعادت العالم إلى ممارسات الاحتلال المباشر (العراق مثلا)، مع الدفع باتجاه التطبيع العلني مع الكيان الصهيوني.

لا بد أن غرف العمليات لإعادة هيكلة النظام العالمي كانت على وعي بأن الإقدام على كل ما سلف لا بد أن يحدث ردة فعل قد تفسد عليهم مخططاتهم، ولذلك كان لا بد من مبرر يجعل الضحايا مدافعين أو على الأقل قابلين بتلك التغييرات العميقة في دول المركز كما في الدول التابعة، وهو ما تم من خلال أيديولوجيا مكافحة الاٍرهاب الذي تساهم تلك الدوائر بصناعة الجزء الأكبر منه لتبرير السياسات الجديدة.

في المقابل، كانت المجتمعات في دول الجنوب مجتمعات ذات هرم شاب عموما، حيث تبلغ نسبة من هم دون الخامسة والعشرين الثلث تقريبا، وقد ارتفعت نسبة المتعلمين بينهم، وكذلك أصحاب الشهادات العليا.. هذا الجيل الذي ارتفع منسوب تعليمه ولم يحصل على الشغل ولم يشهد موجات القمع القديمة، بالإضافة إلى ظهور الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي بالتزامن مع انتشار القنوات الفضائية، كسر احتكار المعلومة الذي كانت تتلاعب به القوى الكبرى والأنظمة القمعية التابعة لها.

كل ذلك مجتمعا ساعد على رفع حالة الوعي والاحتقان وقلل من سلطة الدولة المعنوية على الشباب، فانكسر حاجز الخوف وأصبح الاحتقان ينتظر شرارة المقاومة السلمية المدنية التي كتب الله أن تكون تونس منطلقا لها.

الموجة الأولى من الربيع العربي:

انطلقت الثورة في تونس سلمية مدنية تطالب بالإصلاح، لكن النظام ذا الطبيعة العسكرية لا يفهم السياسة، فاستعمل القوة لإخمادها، مما دفعها إلى المطالبة بإسقاط النظام في شعارها المشهور "الشعب يريد إسقاط النظام". وقد كان له ذلك، حيث كانت سلميته عاملا حاسما جمع كل ضحايا النظام من داخله ومن خارجه حتى أسقط.

لقد كانت الثورة السلمية المدنية في تونس ملهمة للعالم؛ وصل تأثيرها إلى أغلب دول العالم بما فيها دول المركز.

لم تواجه دول الشمال تفاعل شعوبها مع هذا النمط الجديد من الثورة بالقوة، وإنما سعت إلى تشويهها في دول الجنوب حتى تفقد بريقها وتأثيرها، وذلك بجرها إلى عنف الدولة وإرهاب الجماعات التي تشرف عليها المخابرات، مَثُلهم في ذلك إذا لم تستطع مواجهة الفكرة قم بالاغتيال المعنوي لرموزها.

في نفس الوقت، وظفت المال الإماراتي السعودي لتمويل وتوجيه الثورة المضادة في كل الدول التي عمها طوفان الرفض الشعبي، كما ساهمت في إطالة أمد الصراع في اليمن وسوريا وليبيا، ودعمت انقلاب مصر، وحاولت القيام بانقلاب في تركيا، بالإضافة إلى التخطيط لغزو قطر ثم الاكتفاء بحصارها بعد ذلك؛ حتى يفقد الربيع العربي أي ظهير له.

إن إطالة الحرب في دول الربيع العربي التي انزلقت إلى العنف يهدف إلى تأمين دولة الكيان عبر إسقاط الدولة وتشويه الثورة، وكذا الإسلام، لما يمثله هذان العنصران من إمكانية التحول إلى بديل في منطقة مهمة جيوستراتيجيا، ولوجود أهم موارد العالم من الطاقة فيه.

لقد سعت بعض القوى الإقليمية والدولية إلى إجهاض ثورة الشعب السوري ضمن السياق المشار إليه سابقا، لكن السوريين رغم أنهم لم يتمكنوا بعد من استعادة سلطة الغالبية من الأقلية المفروضة من الخارج، إلا أن ما أنجزوه يفوق الخيال.

لقد فضحت الثورة السورية من يرفعون راية الحسين ويقاتلون تحت راية معاوية، وأسقطت ادعاءات التفرد بمناصرة القضية الفلسطينية، وسدت الطريق أمام محاولة توظيف القضية كمدخل للتبشير الطائفي.

لقد أصبحت الثورة السورية عنصرا فاعلا في إعادة بناء العلاقات الدولية من خلال عودة روسيا إلى الفعل في الساحة الدولية، مما أنهى الأحادية القطبية، وأفشل إعادة بناء النظام الدولي على النمط الذي خطط له المحافظون الجدد.

لقد رسخت الثورة السورية تركيا كقوة إقليمية فاعلة وإلى رقم مهم في المعادلة الدولية، فقد أدى تدفق المهاجرين السوريين إلى أوروبا إلى انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، وإلى صعود اليمين الشعبوي، وفوز أشخاص في الانتخابات من خارج النخبة السياسية التقليدية مثل ماكرون.

إن تدفق اللاجئين السوريين تحول إلى شبح لزلزال سياسي قد يعصف بالوحدة الأوروبية وباستقرار النظام السياسي الديمقراطي الأوروبي، ولم يوقف ذلك إلا منع تركيا للهجرة عبر أراضيها بعد الوصول إلى اتفاق حول ذلك مع الاتحاد.

لو أن أحدا قد أخبر السوريين بأنهم سيكونون كشعب عنصر رئيسي في إعادة بناء النظام الدولي وتحديد موازين القوى الإقليمية، والمساهمة في تحديد مستقبل الاتحاد الأوروبي لظنوا أن المتحدث فاقد للوعي بما يقول.

على أبواب الموجة الثانية من الربيع العربي:

لأن حدث وفاة البوعزيزي كان منطلقا للموجة الأولى من الثورات العربية في البلدان ذات الأنظمة "الجملكية"، فإن اغتيال الصحفي جمال خاشقجي منطلق للموجة الثانية من الربيع العربي في الأنظمة الملكية التي أدمنت معاداة الربيع العربي.

لقد أهان ابن زايد آل سعود عندما سلط عليهم أحد صبيانهم وجعل الدولة السعودية تابعة للإمارات، ونقل العلاقة مع دولة الكيان إلى العلن، وهدم أحد أركان الدولة السعودية ممثلة في المذهب الوهابي.

مشكلة ابن سلمان وابن زايد هي إهمالهما لأهمية قطاع الصحافة في الديمقراطيات الغربية، ومشكلتهما الاستهانة بقدرة تركيا على الوصول للحقيقة وعلى قدرتها على إدارة الأزمات.

عمى المال جعل هذين البدويين يعتقدان أن كل شيء مباح إذا كنت قادرا على دفع المال.

قُتل خاشقجي لإخفاء حقيقة الاستبداد والتخلف السياسي في بلاده، فعرى موته قبح جلاديه بشكل لا يوصف.

صحيح أن المال يلعب دورا مهما في سياسة النظم الديمقراطية الغربية، وصحيح أن اللوبي الصهيوني متنفذ، ولكن ليس للحد الذي يسمح بتصفية أحد رموز واشنطن بوست بتلك الطريقة الموغلة في الدعشنة.

ما كان لخشقجي أن يحلم بإيقاع ضرر لابن سلمان في حياته مثلما فعله بموته. إن الاغتيال الجسدي لخاشقجي أحياه رمزا لحرية الكلمة، واغتال جلاده معنويا وسياسيا، وجعله في حالة موت سياسي سريري في انتظار سقوطه الفعلي.

هذه الجريمة ساهمت فيها كل دول الشرق الأوسط الممولة والداعمة للثورة المضادة، لذلك فإن سقوط ابن سلمان سيكون زلزالا يتعدى أثره المملكة السعودية.

كان سقف مطالب خاشقجي لا يتعدى هامشا من حرية الرأي واستشارة الناس في القضايا الكبرى التي تمسهم مباشرة، ولكن اغتياله أتاح له أن يحدد مصير جلاديه وشركائهم.

من المعروف أن لحامي ابن سلمان مشكلة مع الصحافة، وهو يعمقها يوما بعد يوم. ويُعد الدفاع عن ابن سلمان من قبل ترامب أمرا مهددا للسلطة الرابعة في الديمقراطية الأمريكية التي لا يحكمها الرئيس بشكل فردي مطلق، مثلما يفعل حكام الرياض وأبو ظبي. ولا شك أن الصحافة الحرة في الأنظمة الديمقراطية قادرة على إسقاط الرؤساء، وقد فعلت ذلك من قبل.

يبدو أن خاشقجي بموته قد يطيح بترامب قبل أن يطيح بابن سلمان، خاصة مع تزايد معارضة الجمهوريين في البرلمان وانتصار الديمقراطيين في الانتخابات التشريعية.

لقد خرج ربيع العرب في جولته الأولى من المحلية إلى العالمية في تأثيراته الجيوسياسية والاستراتيجية، وها هو في مستهل جولته الثانية ينطلق بدفع لا يقل، بل يتجاوز تأثير الجولة الأولى. وأسال الله أن تكون تكلفته أقل من تكاليف الجولة الأولى.

لن يكون ترامب ولا إسرائيل ولا الإمارات ولا السعودية ولا مصر؛ مثلما كانوا قبل اغتيال خاشقجي.

عالم ما بعد اغتيال خاشقجي لن يكون أبدا مثل ما كان قبله، فسوف يتعزز مسار الثورة والديمقراطية في العالم العربي، ولا عزاء لأنصار الاستبداد.

هذا ما تؤشر عليه وجهة الأحداث في المدة الأخيرة، ولعل نتائجها تفوق المتوقع. فهل بعد هذا يمكن أن نغفل حقيقة أن الربيع العربي تحوّل مدى تأثيره إلى المستوى العالمي؟
التعليقات (0)