قضايا وآراء

قشور جميلة

بلال خليل ياسين
1300x600
1300x600
صليتُ الجمعة الشهر الماضي في مساجد مختلفة، واستمعتُ إلى مواضيع متعددة، إلا أنَّ الجوهر الجامع لهذه المواضيع هو "الشكل" الذي لا يكاد أنْ ينفك عن الخطاب الإسلامي بشكل عام. فما حرص عليه خطيب الجمعة الأولى هو تقليد أحد الدعاة المميزين بجمال الصوت وحُسنه، فأخذ يُرتل الآيات القرآنية والأحاديث النبوية بطريقة مؤذية للأذن، جارحة للمشاعر، مُعطلة للفكرة، فقد كلّف لسانه، وخنف أنفه، حتى يأتي بالنغمة التي هي من طبيعة شخص آخر، ظانا أنَّ هذه الطريقة ستجذب الناس تأثيرا بما يقول، وتغييرا لما يدعو، إلا أنَّه جانب الصواب.

أما الخطيب الثاني فقد تحدث عن جمال الغرب ونظافته في المأكل والمشرب، واحترامه للنظام، وبالغ في وصف الشوارع التي تقطر أناقة من كثرة الاهتمام، ثم ربط هذا الوصف بأحوال المسلمين التي لا تسر إلا العدو، وبعدها أخذ يُشدد بما ينبغي على المسلمين فعله تجاه النظام واحترامه، والنظافة وتطبيقها، والتلطف في الحركات والسكنات؛ لأنَّ المسلمين أولى من غيرهم في هذه الأمور، لا سيّما أنَّها جزء جوهري من ديننا الحنيف.

إنني لا أختلف مع الخطيب في أهمية ما ذهب إليه من جمال، غير أنَّ ما طالب به الناس هو ثمرة شكلية لمدخلات نفسية وتربوية واجتماعية، فالقيمة الاجتماعية التي يتعارف عليها الناس ويُعززوا من شأنها هي التي تفرض نفسها على جميع الأفراد، فلا يُمكن لشخص أن يُطبق أفكارا جميلة في مجتمع لا يُؤمن بها إلا قولا. وهنا يقفز في ذهني ما قاله أحد أشهر الصحفيين العالميين (روبرت فيسك) عندما طرح سؤالا مفاده: أتعلمون لِمَ بيوت العرب في غاية النّظافة بينما شوارعهم على النّقيض من ذلك؟! ثم أجاب: السببُ أنّ العرب يشعرون أنّهم يملكون بيوتهم، لكنهم لا يشعرون أنهم يملكون أوطانهم!

فالشعور هو إحساس صادق يُحرك الإنسان نحو السلوك الذي يضمن له تحقيق المصلحة، التي تجعل من قيم المجتمع المتعارف عليها أن تتفاخر بإنجازاته التي يؤمن بتقديرها، دون الاهتمام لتعزيز المصلحة العامة، أو غرس الثقة في العمل الجماعي.

أما الخطيب الثالث فقد تحدث عن قوة المسلمين وعزتهم في الزمن الماضي؛ مقارنة بالوضع المأساوي الذي وصل المسلمون إليه اليوم، غير أنه استدرك الحاضر، وأخذ يُبشر بعودة الإسلام إلى مكانته السابقة، وكأنَّ الإسلام ذهب إلى القمر ليستطلع إمكانية العيش هناك ثم عاد إلى الأرض مرة أخرى! ثم باشر بسرد الأمثلة التي تدلل على عودة الإسلام، فكان منها كثرة المصلين في المساجد، وكثرة الملتحين في الشوارع، وإقبال النساء على ارتداء الحجاب، وغيرها من الأمور التي لا تعدو شكلا مطلوبا، لكنها لا تعكس حقيقة الإسلام ومقاصده الراقية.

ولعلّ من المواقف التي خطرت في بالي في أثناء الخطبة، موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حينما جاءه رجل ليشهد لرجل آخر، فقال له عمر: أتعرف هذا الرجل؟ فأجاب: نعم، قال: هل أنت جاره الذي يعرف مدخله ومخرجه؟ فأجاب الرجل: لا. قال عمر: هل صاحبته في السفر الذي تعرف به مكارم الأخلاق؟ فأجاب الرجل: لا. قال عمر: هل عاملته بالدينار والدرهم الذي يعرف به ورع الرجل؟ فأجاب الرجل: لا. فصاح به عمر: لعلك رأيته قائما قاعدا يُصلي في المسجد، يرفع رأسه تارة ويخفضها أخرى، فقال الرجل: نعم! فقال عمر له: اذهب فإنك لا تعرفه، والتفت إلى الرجل وقال له: ائتني بمن يعرفك.

أعتقد أنَّ السبب الجامع لمعضلة "الشكل" هو العجز الذي يقف حائرا أمام البحر المتلاطم بمشكلات الواقع وتحدياته المعاصرة، فالخطيب أو الداعية أو الباحث في المجالات الإنسانية بشكل عام هو ابن البيئة التي تُعاني شظف العيش وقسوتها، وابن المجتمع المكبل بمجموعة من المواريث الخاطئة، وابن الجامعة التي لا تغوص في فهم حقيقة الأمور وجوهرها، وابن المفكر الذي يعيش في برج عال لا يُريد أن ينزل من برجوازيته لفهم الشارع ونبضه المتقلب.

وعليه؛ فإنَّ تعزيز خطاب "المضمون" الذي يبحث في بناء الإنسان، وتشييد البنيان، وتسامح الأديان، وتقوية الأوطان، هو ما يُمكن أن يُلامس عقول الناس وقلوبهم التي تسعى للأفضل، وهذا لن يأتي إلا بالتفاعل المباشر مع الواقع ومتطلباته المتجددة، وبإبراز النماذج العملية (في الحاضر)، التي تُعزز الثقة بالفرد والمجتمع والأمة.
التعليقات (1)
ادم
الأحد، 11-11-2018 12:04 م
جميلة حقا، ولكنها فقط قشور! البنية الأساسية هى الفيصل وليس الشكل. جمال الشكل فحسب إن هو إلا خداع بصرى. فالشكل الجميل بحق يستمد جماله من متانة البنية. الإسلام جمع بين متانة البنية وجمال الشكل. للكاتب احترامى وتقديرى.