كتاب عربي 21

بداية نهاية النظام الرسمي العربي

محمد هنيد
1300x600
1300x600
قد لا يختلف اثنان في أن المنطقة العربية تمرّ بواحدة من أخطر الأزمات عبر تاريخها الحديث، لكن الخلاف يدبّ عندما يطرح البحث في مصادر الأزمة. هنا تتعدّد الرؤى وتتباين القراءات والمقاربات في تشخيص المرض وفي تبيّن أسباب تمكّن الأزمة من جسد الأمة. فلا الثورات ولا الانتخابات ولا الانقلابات أفلحت في تحقيق تغيير جوهري أو بلوغ استقرار نسقي قادر على انتشال المنطقة من حالة السقوط التي تعيشها منذ عقود بل ومنذ قرون.

مقاربات متعدّدة

البعض يرى أن الأزمة قطاعية وليست كلية، أي أن المتأزم من المنطقة نظام من أنظمتها وليس كل البناء. البعض الآخر يرى أن الأزمة داخلية أساسا، في حين يؤكد آخرون أن الأزمة سببها خارجي وليس داخليا. كثيرون يرون أن تقاطع الداخل مع الخارج هو سبب الأزمة وأن توافقهما هو الذي عسّر من إمكانية الوصول إلى حلّ حقيقي. يحملّ آخرون السلطة السياسية دون غيرها مسؤولية الوهن العربي في حين يميل آخرون إلى تحميل الشعوب المسؤولية كاملة فيما آلت إليه أوضاع بلدانهم ومصير أجيال بكاملها. قراءة أخرى ترى في النخب العربية بكل أطيافها مكمن الخلل الذي لا ينفك يتفاقم ويتجدد. 

كل المقاربات السابقة تستند إلى مجموعة من الأسانيد والرؤى والخلفيات التي تعزز قراءتها وتبرر موقفها، لكن حقيقة أساسية يمكن استنتاجها من مجمل الفرضيات السابقة وهي الدور المحوري للعناصر الداخلية في تفسير الأزمة الراهنة. هي عناصر وليست عنصرا واحدا، ومن بين كل هذه العناصر تمثل الأزمات السياسية رأس الفعل المؤزّم للمشهد. وهي أزمات لا تتعلق فقط بالأداء السياسي للسلطة الحاكمة محليا بل تتمثل في الأداء الإقليمي للأنظمة السياسية بشكل تجاوز خطره الحدود الإقليمية للدولة.
  
فاعل داخلي 

يظهر هذا الفاعل مثلا على مستوى تكلس المنظمات الرسمية العربية مثل جامعة الدول أو بقية المنظمات الإقليمية مثل مجلس التعاون الخليجي أو اتحاد المغرب العربي أو بقية المؤسسات الفرعية الأخرى كما يظهر خاصة على مستوى النزاعات البينية بين مختلف الدول العربية التي تحولت إلى حاضنة مركزية لكل التوترات.
  
التدخل العربي في اليمن أو ما يسمى سعوديا "عاصفة الحزم" تحول بسرعة إلى واحدة من أكبر الكوارث الإنسانية التي تعصف بالشعب اليمني وتهدّد كامل النطاق الخليجي. أما في سوريا فإن العجز العربي قد ساهم بشكل كبير في تشجيع التدخل الخارجي الذي صار الحاكم الفعلي في سوريا وتحولت البلد إلى مجال للنزاع المسلح على النفوذ فيها بين القوى الأجنبية. 

في الخليج نفسه تحوّلت الأزمة الناجمة عن حصار قطر إلى ثقب أسود يهدّد منطقة الخليج برمتها بالانفجار بعد أن تحولت قرصنة وكالة الأنباء القطرية إلى حالة احتقان إقليمي خانق. 

أما في ليبيا فقد ساهم دعم القوات الانقلابية على الثورة الليبية وتسليح الجنرال الانقلابي في تمدد مساحة العنف والتقاتل بشكل ينبئ بمستقبل لا يختلف عن منوالات الفوضى الأخرى.
 
من يدفع الفاتورة؟

من العسير تحليليا تحميل شعوب المنطقة مسؤولية الحالة الراهنة لسبب بسيط وهو أنها الوحيدة التي تدفع فاتورة الخراب الكبيرة التي مكّن لها النظام الإقليمي. دفعت الشعوب العربية غاليا ولا تزال تدفع ثمن المغامرات الفردية لنظامها السياسي وهو ثمن تجاوز حدّ الضحايا التي تسقط كل يوم إلى حالة التمزق والقطيعة القسرية التي فرضت على مجتمعات المنطقة وعائلاتها. لقد استبشرت الجماهير العربية خيرا بالثورات التي صنعتها ثم شاركت بفعالية في الانتخابات التي تلتها لكن الانقلابات العسكرية التي شارك فيها النظام الاقليمي بدعم دولي حولت حالة الأمل والترقب إلى حمام من الدماء وساحات ممتدة من الفوضى والخراب.
 
إذا كان النظام السياسي العربي غير قادر على تحقيق شروط النهضة وإذا كان عاجزا كذلك عن تحقيق شروط السيادة الوطنية وإذا أخفق في منع الانهيار الاجتماعي والقيمي داخل المجتمعات التي يحكمها فما هي الشروط التي تسمح له بالبقاء؟ 

لا شك ان دور الفاعل الخارجي في تثبيت أركان الحكم الإقليمي لا تخفي، لكن لا يمكن بأي حال أن يتصور النظام نفسه أن الدعم الخارجي سيبقى دعما غير محدود أو مشروط لأن بقاءه مرتهن ببقاء المصالح التي أوصلته إلى السلطة ومتى هُددت هذه المصالح فإن شرط بقائه سيزول أيضا.
 
تآكل داخلي

لكن أخطر الاحتمالات التي توشك أن تنجز على أرض الواقع إنما تتمثل في أن الفعل السياسي العربي يدخل حلقته الأخيرة. هذه المرحلة الأخيرة في عمر النظام الرسمي العربي إنما تتمثل في التآكل الداخلي لبنية النظام نفسه أي أن الصراعات البينية العربية على مستوى الحكومات والأنظمة تمثل آخر مراحل تطور النظام السياسي، حيث يأكل النظام نفسه بنفسه. فبعد أن كانت الأنظمة الاستبدادية العربية موحدة على مستوى الفعل الاستبدادي الموجه أساسا نحو المجتمعات والشعوب ضاقت دائرة الفعل وانعكس اتجاهها وصارت موجهة نحو أجزاء النظام نفسه.

إن حالة التناحر السياسي بين الأنظمة العربية تمثل في نظرنا مؤشرا على نهاية بنية النظام نفسه وإيذانا بدخول النسق السياسي برمته دورته الأخيرة، خاصة بعد أن رفض فرصة التجدد التي أتاحها له سياق الثورات العربية.  لقد كانت الثورات العربية في الحقيقة إنذارا لصالح السلطة السياسية وليس ضدها، كما كانت فرصة لإنقاذ النظام السياسي من نفسه لكنه يأبى الإصلاح والتجدد الذاتي وهو ما يؤذن ببداية مرحلة التفكك الداخلي النهائي للنظام الرسمي العربي في شكله القديم.
التعليقات (3)
عبد الرزاق
الجمعة، 15-03-2019 08:30 م
دوام الحال من المحال.
د .أمينة ثابت الإدريسي
الخميس، 27-09-2018 07:47 م
يعبر الدكتور عن العنصر الأخطر في الأزمة من بين أخطر الأزمات ، برأس الفعل المؤزم للمشهد ، ألا وهي الأزمات السياسية ، ومثل هذا العنصر المؤزم هو واحد من أزمة نفسية اجتماعية ثقافية تاريخية معقدة ، فصل الجزء عن الكل يجعل الكثيرين يتوهمون بأن نهاية النظام السياسي العربي القائم بات وشيكا ، التآكل الذي تحدث عنه الدكتور ثابت بكل المقاييس ، لكن هل ثبوت التآكل يثبت قرب النهاية ؟ الغرب الليبرالي الرأسمالي الاستعماري من خلال دوائره الكنسية واللائكية كان متخوفا جدا من المد الإسلامي ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي ، وتحول تخوفه إلى هلع مزمن ، وقلق مفزع ، فلجأت دوائر الفكر المنغلق إلى دق ناقوس الخطر على مستوى دوائر القرار داخل الإدارة الأمريكية ، واستطاعت أن توجه مسار التفكير والاهتمام إلى أن الخطر الداهم آت من الشرق ، لذلك عملوا كثيرا من أجل تشويه صورة الإنسان المسلم ، واجتهدوا في إلصاق تهمة " الإرهاب " بالمسلمين ، والتشهير لذلك إن كل الأحداث التي شهدها عالمنا الإسلامي عموما والعربي خصوصا من بعد أحداث 11ـ 09ـ 2001 جاءت نتيجة المخطط المرسوم لتجريم " الإسلام " ، تلك الدوائر ذاتها بذلت الكثير في سبيل إفشال ثورات الشعوب العربية على الاستبداد ، هي نفسها تلك الدوائر تبحث من خلال مخابرها اليوم في كيفية تحويل النظام السياسي العربي إلى مصدر خطر مزمن للعالمين العربي والإسلامي ، لذلك لا يمكن الجزم بقرب نهاية تلك الأنظمة المتسلطة .
مصري جدا
الخميس، 27-09-2018 05:35 م
يا سيدي منذ عقود وخاصة في مرحلة ما يسمى التحرر الوطني وظهور الدول الوطنية غالبا في مرحلة خمسينيات القرن الماضي وما بعدها بالتزامن مع انتهاء الحرب العالمية الثانية ،، اتجهت دول العالم الغربي ودول شبه القارة الهندية والكوريتان الى بناء دولها بناء مدنيا علميا متحضرا ،، اعتمد المنهج العلمي والكفاءات واهتم بالتعليم والجامعات فكان ما هو عليه اليوم من التقدم والنمو والسيطرة ،، في المقابل كانت دول المنطقة العربية تعود للوراء الى عهد القبيلة وشيخ القبيلة وحكم القوة والسلاح ،، حين سيطر جنرلات العسكر بل شباب وفتيان العسكر قليل الخبرة والعلم على انظمة الحكم في هذه الدول ،، فلم يعرفوا للعلم مكانا ولا للعمل الجاد سبيلا ،،، بل السيطرة والصراع والتبعية لهذه الدولة او تلك ،، لا يوجد نظام سياسي عربي بالمعني الدستوري او القانوني لكنها فرق عسكرية استولت على منصات الحكم فأفسدت دنيا الناس ودينهم ،، النظام العربي الرسمي لم ينتهي وحده بل انهى معه النخبة المدتية والاسلامية ومؤسسات الدول حتى غالبية الشعوب التي لم تربيها مؤسسات ولم تكونها هيئات انتهت هي الاخرى ،،، ازمتنا ليست في الانظمة وحدها ، ازمتنا كارثية في الانظمة والنخب والشعوب ،،، انظمة مستبدة فاسدة تابعة ،، ونخبة انصاف اكفاء لا يملكون ما يقدمونه للشعوب بل اصبحوا جزءا وظيفيا في انظمة الفساد ،، وشعوب لم تتربى على العمل الجاد والعطاء والبناء لكنها عجولة وكأنها في سباق الحياة تبحث عن من يعطيها ،،، هكذا نحن ،، فهل هناك ثمة امل لبناء دول بهذا الانهيار ،،،