قضايا وآراء

في الإمكان التركي للخروج من دائرة الاستهداف

بلال التليدي
1300x600
1300x600

يحتاج تناول الاستهداف الأمريكي لتركيا إلى قدر كبير من العقل والاتزان، حتى يتم بناء تصور واقعي عن الإمكان التركي في المقاومة. فالضربة التي تلقتها الليرة التركية هي ثمرة رؤية اقتصادية ومالية مدروسة، شارك فيها العديد من الفاعلين الدوليين، كما أن جوهر الإشكال يتجاوز قضية توتر على خلفية رفض أمريكي لمقايضة قس أمريكي متهم بالتجسس؛ بفتح الله غولن المتهم تركيا بالتخطيط للانقلاب على الحكم في تركيا. فقد بدت بواكير الاستهداف التركي مع أحداث تقسيم، وتواترت تحذيرات مراكز ومستودعات التفكير الإسرائيلية من خطورة مخطط الأسلمة الذي يتزعمه أردوغان في المنطقة، وتم تقاسم هذه الأطروحة بتوصياتها من لدن العديد من مراكز البحث الأمريكية، لا سيما منها المقربة من اللوبي الصهيوني، مثل معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى.

والحقيقة أن التحول الذي وقع للسياسات الأمريكية من التخطيط لـ"صفقة القرن"، والشروط الثمانية لوزير الخارجية الأمريكي، والإعداد للحرب النفطية على إيران، إلى التصعيد المفاجئ ضد تركيا وإعلان عقوبات اقتصادية قاسية في حقها؛ يعتبر غير مفهوم ولا مبرر استراتيجيا.

البعض وجد في مزاج ونفسية ترامب الجواب السريع، لكن القضية هي أكبر من مجرد مزاج، حتى ولو كانت الرعونة هي عنوان سياسات الإدارة الأمريكية الجديدة، فمسار الإخفاق الذي عرفته "صفقة القرن"، فضلا عن صعوبة أو استحالة تحقيق النجاعة والفاعلية في الحرب الاقتصادية والنفطية ضد إيران، ومبادرة ترامب لدعوة إيران للحوار غير المشروط.. كل ذلك يؤشر على هذا الإخفاق، أو على الأقل، يؤكد تأجيل الخوض في الملف الإيراني إلى حين نضج الشروط السياسية والاستراتيجية.

 

القضية هي أكبر من مجرد مزاج، حتى ولو كانت الرعونة هي عنوان سياسات الإدارة الأمريكية الجديدة


الإدارة الأمريكية حتى قبل أن تبدأ تفعيل خطتها ضد إيران، أيقنت أنها خاسرة بمعطيات الاستراتيجيا. فالحرب مع إيران نفطية كانت أم عسكرية، لا يمكن تصور جغرافيتها بسهولة، كما لا يمكن ضبط خارطة الفاعلين فيها، فضلا عن توقع السيناريوهات الممكنة، ولذلك، أغلب التقدير أن الإدارة الأمريكية استعلت بموضوع الملف الإيراني للضغط على السعودية والإمارات لضمان مزيد من التدفقات المالية.

المعركة مع تركيا ليست شبيهة بالمعركة ضد إيران، استراتيجيا وجغرافيا، فإيران ممتدة في سوريا والعراق ولبنان واليمن، ونفوذها الاقتصادي والمالي في دول الخليج قوي، لكن تركيا هي الأخرى لها عناصر قوتها الاستراتيجية والعسكرية، كونها عضوا رئيسا في الناتو، وتملك اقتصادا قويا ومتقدما، وتملك إمكانات هائلة لتصير من الاقتصاديات العالمية المتصدرة، هذا فضلا عن موقعها الجغرافي بين أوروبا وآسيا، وتمثيلها للجسر الذي مرت منه الثقافة والحضارة الإسلامية إلى أوروبا ودول البلقان وغيرها، ناهيك عن نموذجها الديمقراطي المتميز في المنطقة.

بعد فشل الانقلاب على حكم أردوغان، لم تعد الإدارة الأمريكية (بإسناد إسرائيلي وتواطؤ خليجي) تملك خيارات كثيرة لتركيع تركيا سوى الحرب الاقتصادية، واستثمار تداعياتها لخلق توتر بين المجتمع ومكوناته السياسية وبين السلطة الحاكمة، وهي بالمناسبة ليست حربا سهلة يمكن تجاوزها بسهولة وبخطابات عاطفية أو بحملات للدفاع عن الكرامة أو استنهاض الأمة، أو ترميز شخص أرودغان ورفعه لمقام "الخلافة الإسلامية". فكما أن الحرب الاقتصادية على تركيا تتم وفق رؤية اقتصادية ومالية دقيقة، وبتواطؤ دولي، وإسناد خليجي، فإن مقاومتها والخروج من دائرتها يتطلب خيارات مدروسة وفي مدى زمني قريب ومتوسط وبعيد.

 

كما أن الحرب الاقتصادية على تركيا تتم وفق رؤية اقتصادية ومالية دقيقة، وبتواطؤ دولي، وإسناد خليجي، فإن مقاومتها والخروج من دائرتها يتطلب خيارات مدروسة


سيكون من العبث والغرور أن نتصور رجوع قيمة الليرة التركية لسابق عهدها بعد أيام أو أسابيع، فمثل هذا الرهان يتطلب إجراءات عاجلة وأخرى بعيدة المدى، وقد يتطلب تغيير رهانات اقتصادية ذات بعد استراتيجي بالكامل. فالنموذج الاقتصادي التركي تم بناؤه في سياق علاقته الاستراتيجية مع أمريكا، وأي تحول في هذه المعادلة، يتطلب تعديل النموذج الاقتصادي التركي بالكامل، فضلا عن ارتهاناته المالية.

تملك تركيا اليوم ثلاث إمكانات قوية للخروج من دائرة الاستهداف، أولها إجرائي سريع وعاجل، يهم تحصين النظام المصرفي التركي الذي يتمتع بمناعة قوية في محيطه الدولي والإقليمي، والثاني، يهم إحداث تغييرات استراتيجية تهم محاور التعامل التجاري، ونوع العملة المستعملة في هذا التعامل، فضلا عن تكثيف الإنتاج والتصدير للرفع من قيمة الليرة. وأما الثالث، فيهم تحرير الاقتصاد التركي بالكامل من الارتهان إلى أمريكا، وذلك بإنتاج البديل الصناعي التركي.

ثلاث إمكانات متضافرة، منها الإجرائي الذي يحدث تأثيرات على المدى القصير وبوتيرة محدودة، ومنها الاستراتيجي، الذي يتطلب حركة قوية للسياسة والدبلوماسية، وتفاهمات وتوافقات عاجلة بين قوى إقليمية مؤثرة ولها حساباتها على ملفات خلافية في المنطقة، وبشكل خاص الملف السوري، ومنها ما هو حضاري يرتبط برفع فاعلية المجتمع ووضعه في دائرة الاستجابة للتحدي.

 

ثلاث إمكانات متضافرة، منها الإجرائي الذي يحدث تأثيرات على المدى القصير وبوتيرة محدودة، ومنها الاستراتيجي، الذي يتطلب حركة قوية للسياسة والدبلوماسية، وتفاهمات وتوافقات عاجلة بين قوى إقليمية مؤثرة


من الوارد جدا أن تكون اللغة التصعيدية بين أمريكا وتركيا هي مجرد تكتيكات لتحسين الموقع التفاوضي، لكن، تكتيكات التفاوض تستحضر دائما خيارات النفق المسدود، وسؤال ما العمل.

تركيا كما إيران تدركان أدوات أمريكا في الضغط، وتدركان فوق ذلك، أن أحسن طريقة للتفاوض معها هي رفع التحدي وتجهيز البدائل، ولذلك التقدير أن أمريكا لن تصمد كثيرا في هذه الحرب، إن رأت إصرارا تركيا على الممانعة، كما أن تركيا لن تعدل عن هدف فك نموذجها الاقتصادي من الارتهان الأمريكي حتى ولو وقع التحول في السياسة الأمريكية لجهة التهدئة.

 

السيناريو الأقرب للتحقق، أن تستمر أمريكا في موجة ثانية في الحرب الاقتصادية، تنتظر بعدها ردة الفعل التركية

السيناريو الأقرب للتحقق، أن تستمر أمريكا في موجة ثانية في الحرب الاقتصادية، تنتظر بعدها ردة الفعل التركية، فإن أتى أقوى من الرد الفعل الأول، ستكون مضطرة إلى البحث عن مسوغات للتحول في سياساتها، خاصة إن فكرت تركيا في استعمال الإمكان الاستراتيجي في الجواب على الاستفزاز الأمريكي.

أما تركيا، فالمرجح أنها ستركب اللغتين، الممانعة التي يتقن أردوغان صياغة مفرداتها، والهادئة التي تدعو أمريكا لتجاوز سياستها العدائية ضد تركيا، والتي يحسن وزير الخارجية تركيب ألفاظها بعناية كبيرة.
التعليقات (0)