كتاب عربي 21

يا مشايخنا.. الفتوى غير الفتة

جعفر عباس
1300x600
1300x600

هات خبزا، وقم بتقطيعه إلى قطع صغيرة في طبق، ثم انثر عليه المرق/ الحساء، وبالهناء والشفاء، فتة هنيّة تكفي ميّة (100)، وهناك من يضيف إلى مكونات الفتة بالخبز بعض الرز واللحم وغيرهما، والشاهد هو أن إعداد الفتة/ الثريد لا يتطلب قدرا كبيرا من المهارة، ولا يستغرق كثير وقت.

والمتأمل لساحة الإفتاء في السنوات الأخيرة معذور إذا استنتج أن هناك مشايخ أو متشيخين من فئة الفاضي يعمل قاضي، ويطلقون فتاوى بأسلوب إعداد الفتة ذاته، أي بقدر كبير من "الكلفتة"، أي دون كثير تبصُّر وإعْمال فكر، ومعظمها في شؤون لا تمس مصائر الناس في الدنيا أو الآخرة.

قبل أيام قليلة، اعتلى شيخ سوداني منبر الجمعة، وقال في ما قال إن السُّكَّر حرام. ليس السُّكْر بتسكين الكاف الناجم عن شرب الخمر، بل تلك المادة حلوة المذاق التي يستعملها الناس في بلاد الله جميعها في طعامهم وشرابهم، وبرر ذلك بأن ضرر السكر بالصحة صار ثابتا علميا ف"انطبق عليه حكم السجائر"، فكل ما يؤدي إلى هلاك الناس حرام، وتناول شيء يفضي إلى الموت أو المرض الشديد لا جدال في حرمته.

جاءت تلك الفتوى عديمة الجدوى، في وقت كان فيه الناس في السودان يفتقدون الخبز والسكر والرز والماء والدواء ومعظم ضروريات الحياة، ولم يقل مفتي السكر إن انعدام السلع الضرورية بل وانعدام القدرة المالية لدى المواطن لشرائها "حرام يا حكومة".

وعندما استفحلت أزمات المعيشة في بلاد السودان، خرج نفر من "علمائها" وقالوا إن الضائقة الاقتصادية سببها أن الناس ابتعدوا عن الله وكتابه وسنة رسوله، وتذكرت عندها فتوى عجيبة بأن الزلزال الذي ضرب بلدة الشلف في ولاية الأصنام في الجزائر عام 1980، عقاب مستحق لساكني تلك البلدة لأنهم ارتضوا العيش تحت كفالة الأوثان، ولم يكلف ذلك المفتي نفسه عناء تعريف الصنم، ولم يتقص ما إذا كان أهل الأصنام قد ارتدوا بالجملة إلى الجاهلية.

ولم يقل لنا من أفتوا بأن هلاك عشرة آلاف جزائري في ذلك الزلزال عقاب رباني مستحق على أهل بلدة الشلف، لأن منطقتهم تحمل اسم الأصنام، متى سيضرب زلزال عرم الهند حيث هناك مليارات الأصنام الحقيقية (آلهة الهندوس) في ملايين البيوت، ولكنهم اكتفوا بتحريم رياضة اليوجا.

أصدرت دار الإفتاء المصرية فتوى بتحريم رياضة اليوجا، وجاء في نص الفتوى بأن هذه الرياضة من طرق التنسك الهندوسية، "لذلك فممارستها تعد ضلالة وبدعة"، ولاقت الفتوى رضا عميد كلية الشريعة والدراسات الإسلامية في جامعة الكويت، من منطلق أن الفتوى وقفت على مقاصد هذه الرياضة المرتبطة بطقوس دينية من خلال حركاتها "واعتقاد ممارسيها بقدسية شخص أو صنم ... وفاعلها، وإن لم يكن من أهلها المعتقدين بها، إلا أنها حركات يتميز بها أناس يقصدون بها العبادة".

واليوجا رياضة أكثر فائدة للبدن والعقل من البلاي ستيشن وإكس بوكس (وهما حلال حتى إشعار آخر)، ولم نسمع بأن من يمارسونها في أمريكا أو أوروبا وغيرهما يستحضرون أو يولون وجوههم شطر شخص أو صنم هندوسي مقدسين.

والتأمل العميق طقس أساسي للتعبد عند البوذيين، وأثبت العلم/ الطب الحديث أن التأمل كما وضع قواعده البوذيون، يؤدي إلى صفاء وتوقُّد الذهن، والتأمل بالمنظور البوذي، وكما صار يمارس في مختلف بلدان العالم غير البوذي، له اشتراطات وأساليب حركية وذهنية ليؤتي أكُله، وليس من يمارسه مطالبا بأن يأتي على "سيرة" بوذا، فهل إذا مارست التأمل على النهج البوذي أكون من أهل الضلال والنار؟

وعودا إلى الزعم بأن الله عاقب أهل ولاية الأصنام في الجزائر لأنهم يعيشون في ظل آلهة كاذبة، نستحضر ما قاله مفتي مصر السابق، الدكتور على جمعة، بأن الله كافأ المصريين بكشف بترولي جديد، ونقول بالقياس، إن النفط الأمريكي أيضا مكافأة من الله على تقوى الأمريكيين، والغاز الإسرائيلي هبة من الله نظير التقوى.

صار أمر مفتي السلطان معروفا في معظم البلاد ذات الغالبية المسلمة، وأول ما هو مطلوب من هذا المفتي هو تحذير الناس من الخروج على السلطان، ولا عليه أن السلطان الذي ينهى الناس عن الخروج عليه مارس السلطنة بعد خروجه على سلطان "سابق".

في عام 2007 أفتى عزت عطية رئيس قسم الحديث بكلية أصول الدين بجامعة القاهرة، بحق المرأة العاملة إرضاع زميلها في العمل، منعًا للخلوة المحرمة، إذا كان وجودهما في غرفة مغلقة لا يفتح بابها إلا بواسطة أحدهما، على أن تتضمن خمس رضعات تبيح لهم الخلوة ولا تحرم الزواج، مع حق المرأة خلع حجابها أمام من أرضعته، مع توثيق هذا الإرضاع رسميًا في عقد يذكر به ذلك، وفي 2006 قال رشاد حسن خليل عميد كلية الشريعة والقانون جامعة الأزهر في فتواه أنه لا يجوز شرعًا للزوجين التجرد التام من ملابسهما أثناء الجماع والمعاشرة لأن هذا حرام شرعًا ويبطل عقد الزواج. 

وما ينتج عن الفتاوى الفتة (فك شيفرات القنوات الرياضية حلال -بناء سور بين مصر وغزة حلال- المحادثات الالكترونية حرام- لا إثم في النظر للمرأة المتبرجة- إلخ) ما ينتج عن التهريج باسم الدين هو فقدان الثقة بين العامة، ومن يفترض أنهم من الخاصة.

ويستوجب ذلك طرح السؤال: إذا كان الإسلام يحرم الكهنوت، فمن أعطى فئة ممن يتسمون بـ"رجال الدين" الحق في أن ينصب كل واحد منهم نفسه "بابا" في فاتيكان افتراضي؟

التعليقات (0)