كتاب عربي 21

هذا أدبي وذاك علمي علمك

جعفر عباس
1300x600
1300x600

انتهى العام الدراسي، وجفت الأقلام، وجُمِعت الأوراق لإعداد النتائج، وبالنسبة لملايين الطلاب الذين جلسوا لامتحان الشهادة التي تؤهل الناجح فيها بتقدير عال للتعليم العالي، فقد كانت تلك أم المعارك، لأن الاستعداد لتلك الامتحانات وخوضها، ثم ترتيب الأمور في ضوء نتائجها، يتم بأساليب حربية، على رأسها البدعة المسماة بالتخطيط الاستراتيجي.


النظام التعليمي عندنا يضع لك الخطة التمهيدية في المرحلة الثانوية، بأن يفتي بأنك علمي أو أدبي، وإذا وضعوك في المساق العلمي، فلا عليك بالجغرافيا والتاريخ وعلم النفس، لأنها مواد "أدبية"، ولكن كيف هي أدبية؟ مش شغلك. 


يا جماعة ما هو عنصر الأدب في المناخ والطبوغرافيا وسائر فروع الجغرافيا؟ كيف تكون حروب هتلر وصلاح الدين، من فنون النثر أو الشعر أو القصة القصيرة أو الطويلة أو المسرح؟ ولماذا الكيمياء والأحياء والفيزياء وحدها هي العلوم؟ وهل من الخطأ أن يفوز أحدهم بلقب عالم دين/ لغة مثلا؟ لا تدخل في حوار طرشان مع الحكومة.


ويكمل أولياء الأمور وضع الخطط في ضوء الأساس الذي وضعته المدرسة: أنت "علمي" فهذا يعني أن عليك أن تصبح طبيبا أو مهندسا، ويا بُني/ بنتي، الله يخليك بلاش سيرة تكنولوجيا المعلومات، وعلوم الكمبيوتر، لأن دارسيها صاروا أكثر من دارسي العلوم الإدارية.


ولكن يا جماعة أنا لن أصبح مهندسا، لأنني لا أحب الرياضيات، وعواطفي نحو الفيزياء مضطربة ومتضاربة
ولا يهمك، لأن الدروس الخصوصية ستكفل لك أن تنافس آينشتاين في هذين المجالين.


ويخيم الحزن على البيوت التي عيالها "أدبيون"، ليس فقط لأن خيارات البرامج التعليمية المتاحة لهم هلامية، ولكن لأن خريج الكليات الأدبية لا يكون مؤهلا لوظيفة بعينها.


ورثنا عن النظام التعليمي الغربي اسم كلية الآداب في الجامعات، وكان الاسم ترجمة غير دقيقة لـ"آرْتْس Arts" التي تعني فيما تعني الفنون والآداب بمختلف صنوفها، وعندما تخلى الغربيون عن تلك التسمية، واختاروا بديلا لها "العلوم الإنسانية"، جارتهم معظم الجامعات العربية، ولكن بقيت المعضلة في إيجاد اسم يقابل "علمي" في المرحلة الثانوية، فتمسك العرب بـ"أدبي"، لأنهم لو أطلقوا على المساق غير العلمي اسم "الإنساني"، لأصيب العلميون بعقد نفسية، وحسبوا أن هناك تلميحا بأنهم لم يكملوا النشوء والارتقاء حسب منظور تشارلس داروين.


ويكمُن جانب من مشكلتنا التعليمية الراهنة في أن معظم أعضاء جماعة المساق العلمي في مدارسنا، وجدوا أنفسهم متورطين فيه، لأنهم، وبطريقة أو بأخرى، أحرزوا درجات عالية في المواد العلمية في مرحلة فرز الصفوف، ويواجهون ورطات أكبر عندما يفشلون في الحصول على الدرجات الموصلة إلى الطب والهندسة والصيدلة والبيطرة إلخ..

 

وعندها يدرك أولياء أمورهم أن عيالهم هؤلاء من فئة "علمي علمك"، وهما كلمتان تأتيان على ألسنتنا، للتدليل على أن طرفي محادثة ما يجهلان الأمر الذي به يستفتيان.


ولا يجدي نفعا أن تقول للآباء والأمهات أن 99,7% من قادة العالم في العمل العام من خريجي كليات الآداب/ الإنسانيات، وأن السبب في ذلك أن هذه الكليات لا تؤهل الدارس فيها لمهنة محددة في غالب الأحوال بل تزوده بأدوات تجعله قادرا على استيعاب متطلبات العمل في مختلف البيئات، وليس سرا مثلا أن معظم وزراء الصحة في مختلف دول العالم، درسوا القانون أو العلوم الإدارية أو الجغرافيا أو علم الاجتماع أو الاقتصاد.


ولأن صلتنا بعلوم العصر المستحدثة ضعيفة، بحكم أن صلتنا بالعصر نفسه هشة، فإننا لا نفكر في إلحاق عيالنا العلميين بكليات جامعية، لا تعود عليهم بألقاب حاسمة مثل دكتور/ يا باشمهندس، ولا يفكر معظمنا أن هناك مجالات دراسة صارت تعتبر في الغرب تقليدية مثل الكيمياء الجنائية وفيزياء الليزر.


دعكم من كل هذا: ما قولكم في أن مجال الطيران اليوم بحاجة إلى نحو 200 ألف طيار، فالخطوط الجوية الفلبينية -مثلا- على ضآلة عملياتها، تبحث عن 21 ألف طيار، وراتب الطيار المتمرس في شهر، قد يكون أكبر من الراتب السنوي لطبيب قضى ما بين الجامعة والتدريب المؤهل لرخصة ممارسة الطب، ما بين سبع وثمان سنوات.


باختصار لسنا قادرين بعد على التفكير خارج الصندوق، عندما يتعلق الأمر بمستقبل شباب سيبلغون سن التقاعد في نحو عام 2060، في عالم تتجدد فيه العلوم النظرية والتطبيقية بوتيرة مذهلة، وحتى مجال مرغوب فيه بشدة مثل الطب يتعرض للتفتيت، أي التخصص متناهي الدقة، ويا ويل طبيب عربي شاب يقول لأهله إنه يريد خوض مجال البحوث الطبية، لأن عدم تعامله المباشر من المرضى، سيجعل أمر امتهانه للطب مشكوكا فيه ويحرم العائلة من التباهي: الدكتور جاء والدكتور سافر.


ونحن شعوب تعشق الألقاب، ولقب دكتور صار حلم كثيرين من غير دارسي الطب، وصارت عندنا جامعات شديدة السخاء في منح درجة الدكتوراه، لأهل السلطان وأهل النقد الرنان، وبعد قيام السلطة الوطنية الفلسطينية (1993) بعامين كان خمسة من أقطابها قد أصبحوا دكاترة من نفس الجامعة في رومانيا، و"حيلة أتخن واحد منهم" الشهادة الثانوية العامة.


ولكي لا يتهمني العلميون بالعلمانية، والانحياز لجماعة الآداب والإنسانيات، أختم مقالي بمقتطف من عدد قديم من مجلة روز اليوسف، عن عميد كلية الدراسات العربية في جامعة مصرية، الذي فرض كتاب "ملامح النصوص الأدبية في العصر الحديث"، على طلاب السنة النهائية، ولنقرأ نصا شعريا لسعادة الدكتور العميد، يتعلق بنصيحة أم لبنتها يوم الزواج: اجتهدي أيتها الملكة العروسة/ وكوني أمام زوجك ننوسة/ وتناولي الطعام بالدبوسة/ وكوني دائما منه مكسوفة/ ولا يراك إلا منعوسة/ وخذي منه ألف بوسة/ فأنت ابنة مصر المحروسة/ دماؤك نقية أحموسة/ فتيهي يا أجمل عروسة/ فأنت مستديرة كالكوسة/ وقد حللت أزمة العنوسة / بزواجك من السيادة الكربوسة!!


أقسم بالله أنني نقلت الكلام أعلاه حرفيا عن روز اليوسف، عن أستاذ في جامعة في بلد كان رائدا في مجالي التعليم العالي والعام، وأرجو من القارئ عدم إضاعة وقته باللجوء إلى غوغل لمعرفة معاني مفردات مثل أحموسة وننوسة.

0
التعليقات (0)