كتاب عربي 21

فيلم "ذا بوست": الصراع بين السلطة والصحافة في أمريكا.. وفي العالم العربي أيضا!

فراس أبو هلال
1300x600
1300x600

يناقش فيلم "ذا بوست" الذي رشح لجائزتين في حفل الأوسكار لهذا العام قضية الصراع بين السلطة والصحافة، والدور الأساسي للإعلام في خدمة المواطنين، ودور القضاء في الحفاظ على حرية النشر وحق المواطن في الحصول على المعلومة من خلال الإعلام.


يحصل صحفي مرموق في العام 1971 على وثائق سرية هي عبارة عن تقرير مقدم من وزير الدفاع آنذاك ديفيد ماكنمارا للرئيس ريتشارد نيكسون حول حرب فيتنام التي كانت لا تزال مشتعلة، وتقرر صحيفة "نيويورك تايمز" أم الصحف الأمريكية نشر تقرير عن هذه الوثائق السرية التي تفضح سياسة الرؤساء كينيدي وجونسون ونيكسون في تلك الحرب، وإصرارهم على الاستمرار بها على الرغم من إدراك وتوصية قادة الجيش ووزير الدفاع بأن هذه الحرب خاسرة لا محالة.


مع نشر التقرير في التايمز يتقدم الرئيس نيكسون عبر محاميه بطلب للقضاء لوقف نشر التقرير بسبب "إضراره بأسرار الدولة" و "إضعاف قدرة الرئيس على الحكم"، فيحصل على قرار مؤقت بإيقاف النشر. يتزامن القرار مع حصول محرر من صحيفة "واشنطن بوست" التي كانت في ذلك الوقت صحيفة محلية على الوثائق، وهو الأمر الذي مثل فرصة غير مسبوقة للصحيفة للتطور والقفز درجة كبيرة في عالم الصحافة الأمريكية على النطاق الوطني، ولكن هذه الفرصة تصطدم بمعضلة قانونية بسبب صدور قرار بمنع نيويورك تايمز من النشر، ما قد يعرضها للمنع هي الأخرى، وإلى عقوبات أخرى قد تصل إلى سجن محرر الصحيفة "بين برادلي" ومالكتها سيدة الأعمال "كاثرين غراهام".


بعد نقاشات حادة بين محامي الشركة المالكة للصحيفة ومجلس إدارتها المتحفظين على النشر وبين محررها الرئيسي، تقرر السيدة غراهام المضي بالنشر مهما كلف الأمر، ما أدى إلى تحويل المالكة والمحرر للقضاء على خلفية النشر، قبل أن تقرر المحكمة العليا أحقية الصحف بالنشر، في قرار تاريخي مثل انتصارا عظيما للصحافة وللحرية، وقبل كل شيء للمواطن وحقه بالوصول للمعلومة.


قصة الصراع بين "السلطة" و "المثقف" و"صاحب الرأي" لم تبدأ هنا بالطبع، ولم تبدأ حتى مع ظهور الصحف والدولة الحديثة، بل هي قصة مستمرة منذ بدء أي شكل بدائي للسلطة وظهور أصحاب رأي ومثقفين، يعتقدون أن دورهم هو محاسبة من يملك السلطة، حتى لا يمتلك حكما مطلقا يعمل لصالحه وصالح فئات نفعية تدور حوله على حساب الأغلبية العظمى للناس.


وفي أثناء النقاش بين محرر الصحيفة "بين برادلي" ومالكتها حول النشر من عدمه، يقول برادلي جملة تلخص دور الصحافة وأهميتها: "يجب أن نمتحن سلطتهم.. إذا لم نقم نحن بمحاسبتهم فمن سيفعل إذن؟!".


ويمتلك الفيلم أهمية قصوى في ظل حكم رئيس أمريكي غير مسبوق ومتفلت ومحاط بالفضائح والرغبة بالتسلط والحكم الفردي، ويبدو أنه بحسب خبير بالشؤون الأمريكية جاء ردا من صانعي الفيلم على الحرب الشرسة التي يشنها ترامب على الإعلام، حيث لم يتوقف منذ ترشحه للرئاسة على وصفه "بالإعلام الكاذب".


وإلى جانب الإعلام والصحافة يظهر الفيلم أيضا الدور المحوري للقضاء، وهو الحصن الأخير في الديمقراطيات للدفاع عن المواطن وعن الحرية، وفي كبح جماح الحاكم المتسلط، إذ ينحاز القضاء الأعلى في الولايات المتحدة لحرية النشر، بتصويت ستة مقابل ثلاثة قضاة لصالح الحق لصحيفتي نيويورك تايمز وواشنطن بوست بالنشر.


يدرك ترامب مثل غيره من أصحاب السلطة الراغبين بقدرات وسلطات مطلقة أن الإعلام والقضاء يمثلان الدرع الأهم في مواجهة رغباتهم، ولذلك فإن الرئيس الأمريكي لم يتوقف يوما عن محاربة الإعلام ومحاولة نزع مخالب القضاء والإدعاء العام، ولعل آخر قراراته في هذا المجال هي إقالة أندرو مكابي نائب مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) على خلفية مشاركته في التحقيق باتهامات التدخل الروسي بالانتخابات الرئاسية الأمريكية، عن طريق اختراق البريد الإلكتروني للمرشحة الديمقراطية السابقة هيلاري كلينتون. وتبع ذلك مطالبة محامي ترامب بإقالة المدعي الخاص بالتحقيق حول رئاسة ترامب وتأثير دول خارجية بسياساته روبرت مولر. ترامب كان أقال سابقا أيضا مدير التحقيقات الفيدرالي جيمس كوبي الذي صرح قبل يومين قائلا، إن الرئيس الأمريكي غوغائي وأن مكانه سيكون "مزبلة التاريخ".


وكما أن الصراع بين الصحافة والقضاء من جهة والسلطة من جهة أخرى لم يبدأ مع نيكسون، فإنه لن ينتهي مع ترامب وفضائحه، وكما انتهى صراع الحريات مع نيكسون باضطراره للاستقالة على خلفية فضيحة ووتر غيت، فقد ينتهي الأمر بترامب بصورة مماثلة أو أشد وطأة على خلفية فضائح تأثير دول خارجية بانتخابه وسياسته، أو غيرها من القضايا الجنسية التي تلاحقه كل يوم.


في الجانب الآخر من العالم الذي لا يزال يرزح تحت وطأة أنظمة غير ديمقراطية شمولية تتحكم بالسلطة بكل أشكالها، يتخذ الصراع شكلا آخر، يتركز في سعي المواطن للوصول إلى أنظمة ديمقراطية، يتمتع فيها بحق الوصول إلى المعلومة من خلال الصحافة الحرة، وبحق الحماية لحرياته الفردية والسياسية من خلال قضاء عادل مستقل.


لم يكن الوصول للديمقراطية والفصل بين السلطات في الغرب وليد الصدفة، بل كان نتيجة لصراع طويل بين "السلطة" من جهة و"المثقف" و"المواطن" من جهة أخرى، وفي أحيان كثيرة لم يكن هذا الصراع سهلا، واضطر خلاله المواطنون والمثقفون وأصحاب الراي لدفع أثمان باهظة، ولذلك فإن محاولة إدانة الانتفاضات الشعبية العربية التي سعت للوصول لحكم رشيد بحجة الأثمان الباهظة التي سببتها، هو محاولة يائسة لإدانة الصيرورة التاريخية للتغيير، التي شهدها العالم ولا يزال وسيبقى ما دامت الخليقة.


في الحكم الصادر لصحيفتي واشنطن بوست ونيويورك تايمز محور قصة فيلم "ذا بوست"، يقول رئيس المحكمة القاضي بلاك: "لقد أعطى آباؤنا المؤسسون الصحافة الحرة الحماية التي تستحقها وفاء لدورها الضروري في ديمقراطيتنا.. الصحافة وجدت لتخدم المحكومين لا الحكام".


لقد كان هذا هو محور "الربيع العربي" في المنطقة.. الشعب أراد صحافة حرة تعمل لأجله لا لأجل الحكام، وقضاء عادلا يعمل لصالحه، لأن وجود الصحافة الحرة والقضاء العادل هو فقط ما يمكن أن يضمن تحقيق شعار "الربيع" بحق المواطن بالحصول على الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية. قد تكون السلطة قد حققت انتصارا موضعيا حتى الآن ضد الشعوب لمنعها من الحصول على هذه الحقوق، ولكن الصراع لم ينته، والشعوب، كما يقول التاريخ، لا تسلم للهزيمة بسهولة!


0
التعليقات (0)