مذكرات عاكف

صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (10)

محمد مهدي عاكف- جيتي
محمد مهدي عاكف- جيتي

الحقني يا عاكف

 

 بعد انتهائي من المؤتمر، توجهت إلى طريق اسكندرية الصحراوي لافتتاح المعسكر،. وفي طريق عودتي من الإسكندرية، وتحديدا في "الرست هاوس"، قالوا لي إن القاهرة احترقت، ولم أكن أعلم، فلقد قمت بحضور مؤتمر جامعة القاهرة في الصباح، وذهبت من الجيزة إلى الإسكندرية، وافتتحنا المعسكر، وعدت في الليل أو في منتصف الليل. فأسرعت إلى القاهرة، ودخلت من ناحية كرداسة، فوجدت كل شيء بشارع الهرم محترقا (وكان مشهورا بكثرة الملاهي الليلية)، ودخلت على ميدان الإسماعيلية (التحرير حاليا)، وكان فيه أفخم أماكن لبيع السيارات الأمريكية، وكان كله محترقا. فذهبت بسرعة للمعسكر كي أطمئن عليه، فوجدت كمال الدين حسين يقول لي: الحقني يا عاكف.. فقد كان ما يزال ضابطا، وبيته كان مملوءا بالسلاح، فقمت بتحويل السلاح من عنده، وأمَّنت المعسكر.

شنطة سلاح

حظي الفدائيون بالتضامن والتأييد من كل فئات المجتمع، من ذلك ما وجدناه من قضاة مصر. فقد كنا نخطط لتفجير قطار الإنجليز في بورسعيد - الذي سبق ذكره - وكنا نحتاج لديناميت لهذا الغرض، وكان المكلف بذلك أحد إخوان الإسكندرية (الأخ خطاب)، فأحضر ثلاث حقائب لهذه المهمة، فيها حوالي 300 كيلوغرام، في قطار من مرسي مطروح، فأمسكوا به في محطة القاهرة.. فماذا يفعل؟ فقال له الأستاذ عبد القادر عودة: يا بني قل إن هذه الحقائب تخص محمد مهدي عاكف، قائد معسكرات الجامعة. وبالفعل قال إنها تخصني، وأصبحت قضية أمام محكمة عابدين. ولم يقبض علي إلا يوم المحاكمة، ووضعت في قفص الاتهام، ووقف الأستاذ عبد القادر عودة، فلم يتكلم سوي عشر دقائق، وبعد ذلك رفعت الجلسة، وخرج القضاة، وحكمت المحكمة ببراءة المتهمين؛ لنبل الغاية، وسلامة الهدف.

الجيش معنا

شاركنا أيضا بعض ضباط الجيش، أمثال جمال عبد الناصر، وكمال الدين حسين، وعبد الحكيم عامر. وكثير من الضباط كانوا يشترون لنا السلاح، ويدربوننا عليه. وكان هناك تعاون، وعلاقة طيبة بيننا وبينهم في ذلك الوقت. فقد زار جمال عبد الناصر عددا من معسكرات تدريب الطلاب الخاصة بالإخوان في الإسكندرية ودمياط، حتى إنه دهش من حجم هذه المعسكرات. كما كان عبد الناصر على علم بأن الإخوان يستخدمون الحرم  الجامعي كمواقع تدريب عسكرية، حيث استخدموا الذخيرة الحية في بعض الأحيان. ونتيجة لذلك، تم فرض قيودا على الطلاب وإجراءات أمنية عند مدخل الجامعات، حينما أصبح وزيرا للداخلية (بعد نجاح ثورة 23 يوليو).

بطولة شعب

ومن المواقف التي تدل على عراقة هذا الشعب، أن أحد الوفديين من عائلة الوكيل؛ حضر ليتبرع بمبلغ، وأصر على ألا يذكر اسمه، وكان المبلغ حوالي 500 أو 600 جنيها، وكان مبلغا كبيرا جدا في ذلك الوقت. ولم تكن النساء أقل من الرجال في التضحية  في سبيل تحرير الوطن، فنجد إحدي السيدات اسمها قوت القلوب الدمرداشية (وكان لها ابن في كلية الطب)، كانت ترسل إليّ سيارة لاستعمالي الخاص، والسيارات في عام 1951 كانت قليلة جدا. فأرسلت أقول لها: هي للمعسكر أم لاستعمالي الشخصي، فقالت: لا، بل لاستعمالك الخاص، فقبلت أن أستعملها على أن أردها عندما أنتهي من مهمتي، فوافقت على ذلك.

وهناك طبيب مشهور، لا أذكر اسم، كان له ابن  يتدرب معنا، وكان من المتحمسين، وظل هذا الشاب يلح علي للذهاب للقتال، وعلم والده فحضر إليّ ورجاني ألا أرسله؛ لأنه ولده الوحيد، فوافقت شفقة عليه. فقال لي: سأحضر هدية للمعسكر، فأحضر سيارة برمائية كانت موجودة في ذلك الوقت تسير في المياه وعلى الأرض. أهديتها لإخوان المنصورة بعد ذلك (بعد انتهاء المعارك)، وبعد استئذان من أهداها. وكثيرة هي تلك النماذج الطيبة من الناس.

المسيحيون ومعركة التحرير

شارك كذلك المسيحيون في تقديم ما يستطيعون من عون لنا، وكانت السيارة التي أتحرك بها يملكها شخص مسيحي، وكانت سيارة ماركة فورد من أفخم ما يمكن. وكان يصر على أن يقوم بنفسه بتوصيلي للمكان الذي أريد الذهاب إليه، فكانت نماذج كريمة حقا، وذلك قبل أن تهديني السيدة قوت القلوب؛ السيارة التي أعدتها إليها بعد انتهاء المعارك.

الصدام مع الشيوعيين

 

على الرغم من هذا الإجماع الشعبي على مساندتنا، إلا أن الأمور لم تكن تسير دائما بسلاسة ويسر، بل كنا نواجه أحيانا بعض الصعوبات ممن يحبون الاصطياد في الماء العكر. فقد حدث - مثلا - في بداية الخمسينيات، ومع اشتداد معارك الفدائيين في القناة ضد الإنجليز، أن حاول الشيوعيون إثارة الاضطراب في الجامعة، وأثناء معسكر تدريب  الطلاب. فقاموا بمظاهرات، واعتدى الطلبة بعضهم على بعض، وأغلقت جامعة القاهرة. وسرت إشاعات كثيرة بحرق جامعة إبراهيم (عين شمس)، فأرسل إليّ الدكتور محمد كامل حسين (مدير جامعة إبراهيم) ليعرف مني حقيقة الموقف في الجامعة، قبل أن يتخذ مجلس الجامعة قرارا بشأن الأحداث، فأخبرته بواقع الأمر، وأننا بحمد الله وفضله نسيطر على الموقف، ولا نسمح لأحد أبدا أن يعبث بالجامعة، وأخبرته أننا بحمد الله قادرون على حمايتها من أي عبث يمكن أن يقوم به هؤلاء المستهترون والمشاغبون.  فما كان من الدكتور الخولي إلا أن قال: سأعد لك بيانا توقعه باسمك؛ لتوضيح الموقف، وحماية الجامعة. وكتب البيان فعلا، وكان بيانا قويا، ووضعته في لوحة أوامر قائد المعسكر. وأمرت الإخوان بالانتشار في ساحة الجامعة مع بعض أسلحتهم لحماية الجامعة من أي اعتداء.. ولكن من أراد أن يقوم بمظاهرات ومؤتمرات فلا شأن لنا به يفعل ما يشاء، كل ما علينا هو حماية المباني والمعامل من أي عبث أو تخريب.

أين السلاح يا عاكف؟

لقد كان موقف الشيوعيين سيئا للغاية، ويخلو من أي لون من ألوان الوطنية في ذلك الوقت العصيب. ولم يقتصر اصطيادهم في الماء العكر على هذا، بل حاولوا تشويه ذلك الجهاد الذي قام به الطلاب. فبعد قيام الثورة، وفي أول انتخابات طلابية، جاء الشيوعيون في وقت مضطرب، وكتبوا منشورات في الجامعة يهاجمون الإخوان، وملؤوها بالشائعات والأكاذيب عليّ. ومنها: أين السلاح يا عاكف؟ وأين كذا وأين كذا؟ فجاء إلي الإخوان مسرعين ليخبرونني بذلك، فقلت لهم: أدعو لي الطلاب لمؤتمر عام في القاعة الكبرى بالجامعة.. وكنت في ذلك الوقت مدرسا بفؤاد الأول الثانوية التي تقع بجانب الجامعة.

وبالفعل كان مؤتمرا ضخما جدا، وخرج هذا ليتكلم، وهذا ليتكلم، وعندما صعدت صمتوا، فلم يكونوا قد رأوني منذ عام تقريبا، فقمت بتحيتهم والسلام عليهم، ودعوت الله لهم بالنجاح، وببساطة شديدة قلت لهم: ما كنت أتوقع أبدا أن هذا العمل العظيم الشريف الذي سجله التاريخ لجامعة إبراهيم في مقاومة المحتل الغاصب وإعلاء كلمة الحق؛ أن يكون سبيلا للمهاترات القذرة لانتخابات طلابية.. أين من تحدث عن هذا العمل البطولي الذي قام به طلبة جامعة إبراهيم؟ وأنا لن أرد عليهم، ولكن سأترك الرد للجنة التي شكلها الاتحاد العام، وشكلتها الجامعة للإشراف على المعسكر، وعلى أمواله، والمكونة من فلان وفلان من أساتذة الجامعة. ثم أخرجت الخطاب الذي كانت اللجنة قد أرسلته إليّ في ختام أعمال المعسكر، وقلت هذا خطاب من هذه اللجنة، وحياء مني (لأنه يذكرني بالخير) وضعته في جيبي، ولم أعلنه للناس. وبمجرد أن قرأت عليهم الخطاب، ظلت القاعة تصفق تصفيقا حارا. وحصل الإخوان على الانتخابات بنسبة 100 في المئة في ذلك العام.

 

اقرأ أيضا: صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (9)
اقرأ أيضا: صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (8)

التعليقات (0)