بورتريه

ذكرى رحيل أسد الصحراء وسيدها.. سيف مجرد في الفلاة

عمر المختار
عمر المختار
أسد الصحراء وسيدها يواجه بأسلحة بدائية جيشا مجهزا بترسانة من الأسلحة الأحدث والأخطر في ذلك الوقت.

كان مريضا بالحمى، تهز رعدتها جسده، ورغم هذا قال لجنوده: "اربطوني على ظهر جوادي بالحبال حتى لا أتخلف عن القتال معكم".

اشتهر بالجدية والحزم والاستقامة والصبر، قاس وشديد التعصب للدين ورحيم عند المقدرة، لا يلين أبدا ولا يهادن إلا إذا كان الموضوع في صالح الوطن العربي الليبي.

كان يسير إلى المشنقة بخطى ثابتة، كانت يداه مكبلتين بالحديد وعلى ثغره ابتسامة راضية، صعد سلالم المشنقة وهو يؤذن بصوت هادئ أذان الصلاة ويقرأ من القرآن الكريم الآية: "يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً" .

ورجعت نفسه المطمئنة راضية مرضية.

عمر بن مختار بن عمر المنفي الهلالي، المولود في عام 1862 ببرقة شرقي ليبيا، عرف اليتم في مرحلة مبكرة من حياته، إذ توفي والده وهو في طريقه إلى مدينة مكة لأداء فريضة الحج، فتولى الشيخ حسين الغرياني رعايته بوصية من أبيه، فأدخله مدرسة القرآن الكريم بالزاوية.

حصد عمر المختار انتباه شيوخه في صباه، مما جعل شيوخه يهتمون به في "معهد الجغبوب" الذي كان منارة للعلم، وملتقى للعلماء والفقهاء والأدباء والمربين.

 مكث في "الجغبوب" ثمانية أعوام ينهل من العلوم الشرعية المتنوعة كالفقه والحديث والتفسير، وشهد له مدرسوه بالنباهة ورجاحة العقل، ومتانة الخلق، وحب الدعوة.

 ومع مرور الوقت وبعد أن بلغ عمر المختار أشده، اكتسب من العلوم الدينية الشيء الكثير ومن العلوم الدنيوية ما تيسَّر له، كما أنه أصبح خبيرا بمسالك الصحراء.

تربى على مبادئ "الدعوة السنوسية" ذات المنزع العلمي الجهادي، وقد أدت علاقته الوثيقة بالسنوسيين إلى اكتسابه لقب "سيدي عمر" الذي لم يكن يحظى به إلا شيوخ السنوسية المعروفين.

شق طريقه نحو الزعامة مبكرا حين حاز ثقة مشايخ الدعوة، فأسند إليه شيخ "الدعوة السنوسية" مشيخة "زاوية القصور" بالجبل الأخضر.

واختاره ليرافقه إلى تشاد عندما قرر نقل قيادة "الزاوية السنوسية" إليها عام 1899.

شارك أثناء وجوده بتشاد في المعارك التي خاضتها كتائب السنوسية ما بين عامي 1899 و1902 ضد الفرنسيين الذين احتلوا المنطقة، وكانت لا تزال وقتذاك ضمن الأراضي الليبية.

وفي عام  1908 دُعي للمشاركة في المعارك بين السنوسيين والقوات البريطانية على الحدود الليبية المصرية.

وعندما أعلنت إيطاليا الحرب على الدولة العثمانية التي كانت ليبيا حينذاك جزءا منها، وبدأت السفن الحربية تقصف مدن الساحل الليبي، سارع المختار إلى العودة إلى "زاوية القصور" لتنظيم حركة الجهاد ضد الغزاة الإيطاليين.

وتولى قيادة "المجلس الأعلى" للعمليات الجهادية الذي أدار أعظم المعارك في التاريخ الليبي مع المحتلين الإيطاليين، خاصة بعد انسحاب الأتراك من البلاد في عام 1912 بموجب "معاهدة لوزان" التي تخلوا فيها لإيطاليا عن ليبيا.

وألحق المجاهدون بالغزاة هزائم مريرة، فقتلوا مئات الضباط والجنود، وخاضوا مئات المعارك في حرب استمرت عشرين سنة.

ولما انسحب السنوسيون من ليبيا إلى مصر عام 1922، ظلت الحرب قائمة بقيادته، ولجأ إلى حرب العصابات عندما حاصره المحتلون عام 1926 في الجبل الأخضر فأجبرهم على طلب وقف القتال، لكنه رفض مطالبهم بوقف القتال والخروج من البلاد، واستأنف قتالهم.

وفي إحدى المعارك عام 1931 وبعد يومين من القتال المستميت وقع عمر المختار أسيرا في يد الإيطاليين بعد اشتباك مع قواته.

وقدم عمر المختار لمحاكمة عسكرية صورية في بنغازي حكمت عليه بالإعدام شنقا، ونفذت فيه العقوبة على الرغم من أنه كان كبيرا مريضا أتعبه كبر السن (73 عاما) وعانى من الحمى.

وكان الهدف من إعدامه إضعاف الروح المعنوية للمقاومين الليبيين والقضاء على الحركات المناهضة للحكم الإيطالي، لكن النتيجة جاءت عكسية، فقد ارتفعت حدة الثورات، وانتهى الأمر بأن طُرد الطليان من البلاد.

واستلهم الليبيون في ثورة فبراير/شباط عام 2011 تجربته فأطلقوا اسمه على جماعات مشاركة في المظاهرات الشعبية، ثم على ألوية عسكرية قاتلت كتائب الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي، كما ضمّنوا علمه الأسود ذا النجمة والهلال في علم الدولة بعد نجاح الثورة.

يقول عنه الجنرال الإيطالي غراسياني: "كان عمر المختار رئيسا عربيا مؤمنا بقضية وطنه وله تأثير كبير على أتباعه مثل الرؤساء الطرابلسيين يحاربون بكل صدق وإخلاص".

ويضيف غراتسياني في حديثه مع عمر المختار في كتابه "برقة المهداة": "عندما حضر أمام مكتبي تهيأ لي أني أرى فيه شخصية آلاف (المرابطين) الذين التقيتهم أثناء قيامي بالحروب الصحراوية... يداه مكبلتان بالسلاسل رغم الكسور والجروح التي أصيب بها أثناء المعركة وكان وجهه مضغوطا؛ لأنه كان مغطى رأسه بالجرد، ويجر نفسه بصعوبة نتيجة الإعياء، وخيل لي أن الذي يقف أمامي رجل ليس ككل الرجال، له منظره وهيبته رغم أنه يشعر بمرارة الأسير".

صحيفة "التايمز" البريطانية قالت في مقال نشرته في اليوم التالي لإعدامه: "المختار الذي لم يقبل أي منحة مالية من إيطاليا، وأنفق كل ما عنده في سبيل الجهاد وعاش على ما كان يقدمه له أتباعه، واعتبر الاتفاقيات مع الكفار مجرد قصاصات ورق، كان محل إعجاب لحماسته وإخلاصه الديني، كما كان مرموقًا لشجاعته وإقدامه".

رجل استثنائي مدحه الشعراء، وأثنى عليه الخطباء، وكتبت فيه الكتب والمقالات، واستلهم سيرته جميع العرب في مراحل نضالهم الطويلة ضد المستعمرين الأجانب وضد السيطرة الغربية على شعوب المنطقة العربية.

وتأتي مرثية أمير الشعراء أحمد شوقي في مقدمة ما كتب عن عمر المختار التي مطلعها:

ركزوا رفاتك في الرمالِ لواءَ           يستنهض الوادي صباحَ مساءَ
جــرحٌ يصيحُ على المدى             وضحَيَّةٌ تتلمَّسُ الحريَّة الحمراءَ
يا أيُّها السّيف المجرَّد في الفلا     يكسو السيوفَ على الزمانِ مضاءَ

تمضي 86 عاما على رحيل شيخ المجاهدين ولا يزال الرجل حاضرا في الذاكرة وكأنه لم يرحل من بيننا أبدا، كأنه حقا "منارة من دم" كما قال شوقي.
0
التعليقات (0)