مقالات مختارة

كما طعنا الفلسطينيين نطعن الروهينجا

نزار بولحية
1300x600
1300x600
إلى متى ننفي وننكر؟ وإلى متى نرفض الحقيقة كاملة من غير نقص ولا اجتزاء ونلف وندور حول حلقة مغلقة ذارفين دموع التماسيح على الروهينجا ونحن نعلم أكثر من غيرنا أصل مأساتهم وندرك أن بعض جذورها وأسبابها موجود فينا وداخلنا؟ 

والى متى نقول بأننا واثقون ومتأكدون ألفا بالمئة من أن الصورة باتت واضحة ومكشوفة بالكامل، وأنه لم يعد هناك داع للكلام على الكلام، بعد أن عرف العالم بأسره أدق تفاصيل الجريمة، وتيقن من أنه لا فرق ولا اختلاف بالنهاية بين ضابط عسكري وراهب بوذي وزعيمة سياسية ذات صيت عالمي، ما داموا جميعا متورطين ومشتركين في حملة الإبادة المسعورة ضد هؤلاء المضطهدين؟ 

إلى متى نواصل قول ذلك ونحن ندرك في قرارة أنفسنا أن كلامنا ليس سوى نصف الحقيقة وأنه الجزء الظاهر والمكشوف من لوحة دموية كبرى قد يكون ما أخفي وغيب عمدا من باقي قطعها وأجزائها اكبر واعظم، وربما حتى اشد مأساوية وفظاعة مما نتصور؟ يكفي أن ندقق في وجوه السفاحين الذين مسكوا السكاكين وغرزوها بخسة ووحشية في بطون الأمهات الحوامل، والذين لم يرحموا شيخا أو امرأة أو رضيعا، وأحرقوا وأبادوا قرى وبلدات بأكملها، ودفعوا الآلاف للتشرد والهروب في البراري أو القوارب نجاة بأرواحهم ونتأمل ملامحهم وتصرفاتهم حتى نقفز على الفور من مقاعدنا الوثيرة وراء شاشات حواسيبنا وتلفزيوناتنا، صارخين لهول المفاجأة بأننا شاهدنا في مناسبة ما الوجوه والملامح والتصرفات ذاتها، وأن ما نراه ليس سوى استعادة لمشاهد رأيناها رأي العين، أو عاصرناها أو على الأقل سمعنا وقرأنا عنها في كتب التاريخ المعاصر. 

إن الشبه عجيب ومذهل ويكاد يبلغ حد التطابق التام بين الملامح والتصرفات التي تظهر الآن في ميانمار وملامح وتصرفات أخرى ظهرت وتكررت في أماكن وأزمنة أخرى قريبة وبعيدة. لكن لسوء حظنا نحن العرب والمسلمين فان كل المآسي التي حلت بنا، رغم تعدد أسمائها وعناوينها، فهي بالأخير نسخة واحدة طبق الأصل. أنظروا إلى أساليبها وخططها وفظاعاتها، وستتأكدون من أنها فعلا كذلك، بل تأملوا حتى في ردات فعلنا المستخفة والسلبية إزاءها، وتعاملنا القاصر والمهزوز معها، وستلحظون أن المواقف والشعارات العنترية الجوفاء نفسها والأخطاء والحماقات والخيانات التي قادنا وما زالت تقودنا لتلك المصائر الأليمة هي التي تعاد وتتكرر والى أجل غير معلوم. ألا ترون ألا فرق بين ما جرى ومازال يجري للروهينغا وما حصل مثلا في تسعينيات القرن الماضي للمسلمين في البوسنة والهرسك أو لألبان كوسوفو أو لمسلمي كشمير أو للايغور في أوقات أخرى؟ 

ألا تعتقدون أن الأمر ليس محض صدفة، وأن هناك صلة وعلاقة بين مجازر كالتي حصلت في دير ياسين وصبرا وشاتيلا وغيرها وما نسمعه ونراه على الشاشات من مجازر وانتهاكات فظيعة بحق من تطلق عليهم الأمم المتحدة لقب «اكثر الأقليات اضطهادا في العالم»؟ قد تقولون إن في الأمر قدرا كبيرا من المبالغة، وقد تردون أيضا بأنه لا وجود إطلاقا لأي خيط أو رابط حقيقي بين حملات الإبادة التي تعرض لها الفلسطينيون في الأربعينيات والثمانينيات على سبيل الذكر، وحملات الإبادة التي استهدفت ومازالت تستهدف الروهينجا إلى اليوم.

فالعدو الظاهر للفلسطينيين ليس هو العدو الظاهر والمعلوم للروهينغا، والظروف والسياقات والمعادلات والتوازنات المحلية والإقليمية ليست بالطبع نفسها، ولكن ألا تبدو لكم تلك السكين التي ذبحت الفلسطيني ونكّلت به وشردت شعبه وقطّعته على قارات العالم الخمس هي السكين ذاتها التي نكلت بالبوسني والكوسوفي والأفغاني والكشميري والروهينغي، وروعت شعوبهم ودمرتهم؟ عودوا إلى كل المذابح والإبادات التي شهدناها على مر تاريخنا المعاصر وستدلكم تلك السكين على أن بصمات القاتل مهما تلونت أو تعددت تظل واحدة. 

ألم يروج اليهود حين عزموا على إفراغ فلسطين من أهلها على إنها «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» ثم قادوا بعدها حملات الإبادة في القرى والبلدات الفلسطينية وفقا لذلك النهج الفاشستي الصارم، وهو وضع كل مدني أمام واحد من خيارين اثنين «إما أن ترحل أو تموت». لقد قال جاك دورينيه مندوب الصليب الأحمر الدولي في القدس، وكان أول شخصية أجنبية تدخل دير ياسين بعد إبادة أهلها عن بكرة أبيهم في شهادته على ما رآه حينها في البلدة، «إن أفراد العصابة اليهود، سواء الرجال منهم أو النساء كانوا جميعا مدججين بالسلاح، يحملون الرشاشات والمسدسات والقنابل اليدوية والسكاكين الطويلة. وكان معظم السكاكين ملطخا بالدماء، واقتربت مني شابة ذات عينين مجرمتين وأرتني بتباه سكينها التي كانت ما تزال تقطر دما، وكان واضحا أن هذا هو فريق التطهير للإجهاز على الجرحى، وانه كان يقوم بمهمته خير قيام». ولو أخذنا تلك الفقرة الصغيرة بمفردها من دون أن نقرأ مئات الشهادات التفصيلية الأخرى التي تضمنت روايات اقسى واشد منها، فسنخلص بالتأكيد أيضا لذلك الاستنتاج السابق. 

لاحظوا جيدا أن ما جرى أواخر الأربعينيات في دير ياسين هو ما تكرر بالحرف في التسعينيات في سيربرينتشا، وأيضا في كشمير ومور وبالفلبين، ويتكرر الآن في إقليم أركان بالوحشية والحقد ذاتهما وبالقدر من التصميم نفسه على محو كل اثر للوجود الإنساني، بالإعدام التام لأي اثر للحياة، وتشويه التاريخ والسطو على الجغرافيا وتبديل كل ملامحها. لقد حوصرت دير ياسين وسط صمت وتواطؤ دولي، ولم يختلف الأمر في سيربرينتشا أو في أي قرية من قرى الروهينجا. ومن قبل أن يجهز العدو على الأهالي المدنيين العزل بوحشية تفوق الوصف، دفع هؤلاء حياتهم ثمنا لتصديقهم وعود الشقيق والصديق. لقد قال لهم الأول إن الجيوش العربية الجرارة ستهب لنصرتكم وستحميكم لو حصل وتأخرت لسبب من الأسباب، فان كل السلاح الذي تحتاجونه للدفاع عن أنفسكم سيكون بين أيديكم في الحال.

وقال لهم الثاني إنكم في حماية الشرعية الدولية، ولن نسمح لأي احد كائنا من كان بأن يعتدي عليكم أو يخرجكم من أرضكم ودياركم بالقوة. أما النتيجة فيعرفها الجميع. فهل نلوم إذن الإسرائيلي والصربي والبورمي فقط؟ أم نلوم قبل ذلك انفسنا على كم النفاق والخيانة والتنصل من الوعود والعهود لمن وصفناهم بإخواننا في العرق والدين، الذي قد يوازي ويعادل كم الغل الحقد والوحشية الذي دفع القتلة لارتكاب تلك المجازر؟

ألسنا نحن من قدمهم لقمة سائغة وعلى طبق للأعداء؟ ونحن من سعى ويسعى الآن ليعيد السيناريو نفسه مع الروهينجا ويحول قضيتهم إلى مجرد قضية لاجئين يطلبون ويبحثون عن إغاثات ومساعدات إنسانية؟ ثم أخيرا ألم يحن الوقت بعد لنملك الشجاعة ونعترف بأن ما يسميه البعض تقاعسا عن نجدة الفلسطينيين والبوسنيين والروهينجا، هو في الأصل تلك السكين الحادة التي طعناهم بها في الظهر قبل أن يكمل الباقون المهمة؟ 

القدس العربي

0
التعليقات (0)

خبر عاجل