(1)
أغمض عينيك واسمعني: سأحدثك عن فرصة ممكنة لإنقاذ الوطن، واستعادة استقلاله وكرامته، وتأكيد سيادته على أرضه وحدوده ومياهه وثرواته، ورد الاعتبار لشهدائه، والانتصار لمبادئ ثورة 25 يناير، وسوف أضع يدي في يدك بدون أن أعرف اسمك أو دينك أو حزبك لكي نؤسس معا دولة مدنية ديمقراطية حديثة.. لا مكان فيها لظلم ولا استبداد ولا تبعية ولا فساد، ولا فقر ولا بطالة، ولا جوع ولا خنوع، فهل توافق؟
(2)
نعم أوافق.. هذه هي الإجابة الطبيعية لمواطن عربي يفتقد هذه الأهداف والحقوق التي طالما نادى بها وناضل من أجلها، لكن إجابة المواطن نفسه قد تتغير عندما تخبره أن هذه المبادئ هي مطالب الجبهة الوطنية المصرية التي تم الإعلان عنها قبل أيام بمشاركة أغلبية من الإسلاميين مع أفراد من اليسار والليبراليين والمستقلين بهدف إسقاط نظام السيسي، وبدء مرحلة جديدة تسعى لفتح المجال العام وإدارة الدولة المصرية على أسس المشاركة والتوافق، فهل يضع اليساري يده في يد طارق الزمر؟ وهل يقبل صلاح عبد المقصود ناصرية معصوم مرزوق؟ وهل يمكن أن يلتقي يحيى القزاز وأسامة رشدي على أرضية عمل مشتركة؟ وهل يتقبل جمهور هذه التيارات فكرة التوافق مع "خصومهم" بعد كل تلك السجالات العنيفة وذلك التراشق اللفظي الذي وصل إلى درجة الإنفلات والتخوين وتبادل الاتهامات بلا سقف؟
(3)
أي إجابة صادقة لابد أن تؤكد على صعوبة تحقيق الجبهة، لاسيما إذا استسلمنا للواقع الآني بكل ما فيه من نزعات تعصب وانغلاق وانكفاء على الذات وخصومة نفسية مع الآخرين من أبناء الوطن، وصلت في بعض تجلياتها إلى نوع من العداء النفسي، ولا أكون متجنيا إذا قلت إنها وصلت أيضا إلى الكراهية، ولذلك فإن الطرح التوافقي العظيم الذي أعلنته "الجبهة الوطنية" في بيانها يعد مكسبا كبيراً، ليس للمعارضة السياسية وفقط، ولكن لتحقيق المصالحة الاجتماعية ورتق النسيج الوطني ونر ثقافة التعايش وإقامة العلاقات بين الأفراد على أساس المواطنة وليس من منطلق العصبيات الحزبية والفئوية، وكلها أهداف أجّل وأهم من أي مصالحة سياسية تقتصر على تقاليد الحكم العتيقة التي تقوم على المحاصصة وتوزيع الغنائم لتمكين المشتاقين للمناصب وأمراء الطوائف الذين يرغبون في الحصول على أنصبة من الحكم، دون إخلاص كاف لهدف التطور المجتمعي والارتقاء بعصرنة الدولة وانتزاع الاعتراف بحقوق المواطنة من الحريات والمساواة أمام القانون إلى مستوى المعيشة والعلاج والأمن والكرامة والتعليم اللائق.. إلخ.
(4)
من الطبيعي أن يكون لدي خلافات مع بعض نقاط البيان، ويكون لدى غيري خلافات مع نقاط أخرى، وهذا أمر طبيعي طالما لا تتصل هذه الخلافات بالمبادئ الأساسية، فالحديث عن هُوية مصر ليس محل خلاف طالما يتضمن احترام قيم الحرية والعدل والمساواة والكرامة الإنسانية، وحماية الاستقلال، ورفض التبعية، والتأكيد على حقوق الإنسان وأولها الحق في الحياة، وتجريم الإرهاب بكل صوره، وهي المبادئ التي نص عليها بيان الجبهة مؤكدا الالتزام بوحدة الصف بين القوى الوطنية، وسعيها معاً نحو هدف وطني جامع وهو بناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة، تقوم على العدل وسيادة القانون، واحترام الحريات، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وفي تقديري أن أي مواطن بريء وعاقل وعادل لن يختلف مع هذه المبادئ والمساعي، ولن يختلف مع شعارات ذات دلالات رمزية إيجابية مثل تأكيد البيان على الالتزام الكامل بالسلمية واللاعنف كمبدأ أصيل واستراتيجية ثابتة، والحفاظ على ممتلكات الشعب وثرواته ومؤسساته، وإشارته إلى ضرورة تجاوز خلافات الماضي والتركيز على المستقبل، والإقرار بالمسئولية المشتركة عما وصلنا إليه، وقد أعجبتني النقطة الأخيرة لأنها صيغة ذكية تساعد على تجاوز خلافات تعمقت بشدة خلال السنوات الأربع الماضية، وتكاد تؤسس لهولوكست مصري يبرر تبادل الكراهية من خلال أحكام نهائية يصدرها كل طرف ضد الآخر.
(5)
من الصياغات الذكية أيضا في البيان، الحديث بشكل عام عن رفض الانقلابات العسكرية، والعمل المشترك لإنهاء الحكم العسكري وكل آثاره، بعد معاناة المصريين من الانقلاب على ثورة يناير واستحقاقتها الديمقراطية، وأكد البيان في بند لاحق على عودة الجيش إلى ثكناته وتفرغه لحماية حدود الوطن (وهي إشارة تحتاج إلى تفاصل كثيرة حتى لا نظل ندور حول أزمة 1954 دون أن نغادرها)، وربما لذك حرص البيان على إظهار موقفه المتوازن من الجيش كمؤسسة وطنية ينبغي العمل من أجل تقويته ورفع جاهزيته، مع الإشارة إلى خضوعه لرقابة المؤسسات المدنية الدستورية المنتخبة، وعدم تدخله في السياسة والاقتصاد، وهي صياغة محل اتفاق في ظاهرها لكنها تفتح الباب لصدام جوهري، يحتاج إلى حكمة في الطرح وضمانات عاقلة في الممارسة تؤدي إلى تطوير الحالة، وليس إلى انفجارها، كما يحدث حولنا، خاصة وأن البيان أغفل الحديث عن قضايا خلافية مثيرة للشقاق، مثل الموقف الصريح من مطلب عودة الدكتور محمد مرسي إلى منصب الرئاسة، وهل هو من الماضي الذي يجب تجاوزه حرصا على الوفاق أم أنه من المستقبل الذي سيتم التأسس عليه؟! ومثل الموقف الصريح من 30 يونيو، والتي اكتفى البيان بالتعامل مع نتائجها الكارثية، والنتائج من وجهة نظري محل اتفاق، لأن الخلاف يكمن في منطلقات 30 يونيو باعتبارها تحرك شعبي ضد نظام حكم، حتى لو انتهى هذا التحرك إلى نفس مصير ثورة يناير، فلماذا وردت يناير في البيان وتم إسقاط يونيو؟وكيف سيتعامل "أنصار الشرعية" مع الجماهير الثائرة التي خرجت ضد حكم الإخوان؟
(6)
هذه النقاط وغيرها أقرب إلى ألغام تم دفنها مؤقتا، والسؤال: هل السكوت عنها مناورة للخداع، ورغبة في تلفيق الوضع لصناعة تقارب وهمي مؤقت يتم الانقضاض بعده على الشركاء لتحقيق أهداف فئوية كامنة، أم أنه "صمت الحكمة" لتجنب إثارة الخلافات في مرحلة حرجة، نحتاج فيها إلى توسيع الأرضية المشتركة وبناء جسور الثقة والتوصل إلى مفاهيم للعمل المشترك، ثم ممارسة الاختلاف بعد ذلك في ظروف أفضل.. باحترام وأمان دون تعارض بين الهويات الفرعية والهوية الوطنية العامة؟
(7)
لن أتوسع في أسئلة تثير الشكوك، وتفتش في الضمائر، لأن ذلك قد يهدر الأمل الوحيد الممكن، وقد يدمر جنين التغيير المنشود، خاصة لمواطن مثلي تربى على الحلم بدولة وحدة عربية كبرى، فإذا به يعاني من التمزق والتشتت والتناحر داخل القطر الواحد، لذلك أقول لمن يسلم بهذا البيان دون ضمانات: يجب أن تحصل على "الجارانتي"، وأقول للمتشكك حتى الكفر: حرّص ولا تخَّوِن.. وتذكر أنك بالعقل والخبرة تستطيع أن تصنع الترياق من السم، فلا تواصل القَسَم مؤكدا أن سم الثعابين مميت، فأنا أتفق معك في التشخيص، لكنني أحدثك عن وظيفة أخرى ونظرة ثقافية وعلمية أخرى.. أحدثك عن إمكانية تحويل العبء إلى حافز، وتحويل السم الذي تكرهه إلى ترياق يعالجك ويعالجني، قد يكون السم من وجه نظرك هو طارق الزمر "بتاع الجهاد" أو أيمن نور "بتاع الليبرالية"، أو
جمال الجمل "بتاع 30 سونيا"، وعن نفسي أقول: يا أخي المتشكك.. "اعتبرني سماً مستعدا للتحول إلى ترياق" وفكر كيف يشفيك ذلك من لدغات الثعابين، اغسل ذاكرتك من مرارة الألم ومن أحماض الانتقام ومن رواسب الخبرة السلبية، ربما تستطيع وأستطيع أن ننظر معاً للجديد، نظرة أفضل تحقق لنا الكثير من الفوائد والخير الذي يعم على الجميع، وتذكر دعاء الرسول الأمين عليه الصلاة والسلام بأن يعز الله الإسلام حتى بأعدائه.
وللحديث بقية حتى يتحقق التوافق بيننا أو ننقرض، فليس بعد مرحلة الأشلاء إلا التوحد أو الانقراض.