يعود هذا السؤال (الذي في الحقيقة لم يغب) ليطرح نفسه بحدة مع الدمار الهائل والمتواصل الذي تتعرض له مدينة
الموصل والوضع المأساوي لأهلها، الذين تشرد مئات الآلاف منهم، وهلك كثير منهم قصفا وقنصا جبانا وجوعا وعطشا رهيبين، والذين منعت حكومة بغداد الفارّين منهم نحو عاصمة بلدهم من دخولها؛ بداع أمني ظاهرا وطائفي في الحقيقة باطنا، فيما يصول ويجول الإيرانيون فيها، وأولهم جنرال الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، الذي يجمعه وأمريكا "العم سام" سرير واحد، مثلما عبّرت كاريكاتوريا على صفحتها الأولى مجلة "ذا ويك" البريطانية في ما يسمى بعملية "تحرير الموصل"، التي مرت ثمانية أشهر على بدايتها.
لماذا سلموا الموصل لـ"داعش" أولا؟! يعود السؤال ليطرح نفسه مع ما يبدو أنها مسألة وقت فقط لتتم استعادة ما كانت تعرف بثاني أكبر مدينة في
العراق من ذلك "البعبع" الذي أريد له، وبشكل مفضوح، أن ينتشر كـ"فيروس" مخابر متحول ومتوالد، والذي تُرك يؤدي المهمات البشعة المتوحشة، قبل أن تتحرك الأحلاف الطبيعية وغير الطبيعية والأجندات المتداخلة لتعلن محاربته.
كاتب عربي "قومي" ظل لسنوات ينافح عن عراق العروبة المطعون و"قائده المغدور" صدام حسين، كما كان يسميه، ومع بداية عملية "تحرير الموصل"، التي تزامنت مع الهجوم الوحشي الجوي الروسي على حلب الذي وفر الغطاء الجوي لمليشيات إيران الطائفية، وما تبقى من جيش بشار الأسد. الذي لا يشكل في الحقيقة إلا 15 في المئة من القوات الداعمة له على الأرض ـ كتب في مقال يقول، هكذا بكل "تجرد" وبرودة: "إن الكاسب الكبير في تحرير الموصل كما في حلب ستكون إيران!".
الكاتب الذي تستفزه عادة تدخلات أمريكا، لم يتساءل عن توفير "الشيطان الأكبر" التغطية الجوية على الأقل لإيران ومليشياتها الطائفية في الموصل، كما أنه وفي حساباته "البقالية" للربح والخسارة؛ غاب عنه أو ربما تعمد عدم طرح السؤال الأولي: من الكاسب الكبير أولا إن لم تكن إيران (عبر أدواتها في العراق) في "التسليم المفضوح" للموصل لـ"داعش" قبل ثلاث سنوات؟
عن هذا التسليم المفضوح وتحت عنوان: "لماذا الهجوم المفاجئ لداعش في الموصل، لم يكن حقيقة مفاجأة بالنسبة لبغداد!"، كتبت صحيفة "الإندبندنت" البريطانية، العام الماضي، بناء على تقرير برلماني عراقي، أن مسؤول المخابرات العراقية في الموصل أبلغ كم من مرة حكومة نوري
المالكي (أحد أدوات إيران في العراق) عن تحرك مريب لجماعات مسلحة، فيها مزيج من الضباط السابقين في جيش صدام ومسلحين "ملتحين" في منطقة على مشارف الموصل، وأنهم يحضّرون شيئا، لكن المالكي لم يتحرك، فهاجمت مجموعة قدرت بـ600 مقاتل الموصل، ثاني أكبر مدن العراق، واستولت عليها في ظرف وجيز، وفر منها (أو أمروا بذلك) نحو 65 ألف جندي حكومي عراقي، تاركين أسلحتهم ومعداتهم لـيسلموا المدينة عمليا لـ"داعش"، والباقي ليس إلا تاريخ كما تقول المقولة.